مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]

صفحة 368 - الجزء 1

  وفارق مهاجراً إلى الله دارهم ومقامهم - وهبه الله من إسحاق ويعقوب ما وهب، وهداه الله في مذهبه إذ ذهب، وقال سبحانه: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ٤٩ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ٥٠}⁣[مريم]، فهاجر إبراهيم # لله قومَه وبلده، وفارق في الله وطنَه ومولده، وهجر صلى الله عليه أباه فيمن هجر، وهو صلى الله عليه كان أبرَّ مَن بَرٍّ، فهجر أباه في الله طاعةً لله، وتبرأ منه إلى الله إذ تبيَّن له أنه عدو لله، فقال سبحانه فيه صلى الله عليه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ١١٤}⁣[التوبة]، والأواه فهو: الرحيم، والحليم فهو: الحكيم.

  وهاجر لوط صلى الله عليه إذ هاجر معه، ولم يسعه من الهجرة إلا ما وسعه، كما قال لا شريك له: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٢٦}⁣[العنكبوت]، وهاجر لوط صلى الله عليه بأهله ثانية، إذ كانت القرية التي كان فيها قريةً طاغيةً، إذ جاءته ملائكة الله فقالوا له عن أمر الله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ٦٥}⁣[الحجر]، وتأويل {لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}: لا يعرج أحد منكم تلبيثاً، وسيروا كلكم جميعاً سيراً حثيثاً، وليس تأويل {لَا يَلْتَفِتْ} ما يظن العمي الميِّت من الالتفات في النظر إلى ما وراء الظهر أو إلى ما عن الميامن والمياسر، ولكنه استحثاث واستعجال، كما يقول المستحث المعجال إذا أنذر أحداً أو أرسله فاستحثه واستعجله: لا تلتفت إلى شيء ولا تعرج له.

  ثم قال - من بعد قصة إبراهيم وأبيه - ربُّ العالمين لرسوله ومن معه من المؤمنين: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣}⁣[التوبة]، فبيَّن سبحانه أن من والى من عاداه فقد ضلَّ عن حقه وهُداه، فمن جاور من ظلم وتعدَّى وهو