مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]

صفحة 369 - الجزء 1

  يجد من جواره بُدَاً فقد قاربه بالمجاورة وداناه، ومن دانى أحداً كما قلنا فقد وَليَه وتولَّاه، والمقاربة كما قلنا فهي ولايةٌ وإن لم تكن مؤاخاة، ولذلك ما طهر الله أولياءه من أن يجاوروا في دار ومحل أعداءه، فأمر تبارك وتعالى لوطاً - إذ كان من هاجر عنه ظالماً مفرطاً - بالخروج عنهم والهجرة لهم كما هاجر عمن كان قبلهم.

  وقال رب العالمين لمن بعد إبراهيم من الرسل والمؤمنين: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَأَئُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}⁣[الممتحنة: ٤]، وما آمن بالله ولا راقب وعيده ولا وعده مَن والى أعداءه وكان متبوَّأهم متبوأه، ولا أناب إلى الله ولا أسلم له، ولا قبل أمره وقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ٥٤ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ٥٥}⁣[الزمر]، إذ من الإسلام والإنابة إليه المهاجرةُ لعدوه فيه، كما لا يكون أتاكم ولا ورد عليكم مَن مشى بعض الطريق إليكم، فكذلك لا يكون عند الله منيباً مسلماً مَن لم يكن للإنابة والإسلام مُكملاً مُسْتَتِمّاً.

  ألا تسمعون لقول إبراهيم صلى الله عليه والذين آمنوا معه، وكل مَن آمن به من المؤمنين واتبعه: {إِنَّا بُرَأَئُ مِنْكُمْ}، فقدموا ذكر التبرِّي منهم وذكر انقطاع الولاء والمجاورة بينهم قبل ذكرهم لأوثانهم ومعبودهم وما كفروا الله به فيها من شركهم وجحودهم، فكما يجب الاعتزال للضَّلال فكذلك يجب الاعتزال للضُّلال، وكما تجب الهجرة للكفرة والفجار فكذلك تجب الهجرة للفجور والكفار، فرحم الله عبداً اعتزل الضالين وضلالهم، وهجر لله وفي الله الظالمين وأعمالهم، فإنه أمر سبحانه باعتزالهم كما أمر باعتزال أفعالهم، ولم يعتزلهم مهاجراً ولا مجانباً مَن كان لهم في دار ظلمهم قريناً أو مصاحباً.