[تأكيد الله لأمر المهاجرة وتشديده لفريضته فيها]
  فليحذر أمرؤ جاور مَن ظلَمَ وحالَّه وإن لم يفعل من الظلم أفعاله أخْذَ الله له وعقابه، وليذكر حكم الله عليه وكتابه، فقد سمع ما نزل الله من ذلك وفيه، وما حكم به من هجرة الظالمين عليه، ففي أقل من ذلك كفاية وغنى ونورٌ لمن هداه الله وضياء، فقد جاءت من الله في ذلك كله البينة المضية، ووصلت إليه فيه سنن رسله وأوليائه المقبولة عنده المرضية، التي جعلها الله سبحانه من بعدهم صلى الله عليهم تذكرةً كافية، وحجة على كل من آمن بالله وموعظة بليغة شافية.
  وليسمع قول أصحاب الكهف إذ يقولون وهم هاربون من قومهم في الله فارُّون: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ١٦}[الكهف]، فذكر اعتزالهم لأشخاصهم وأبدانهم قبل ذكره لاعتزال أصنامهم وأوثانهم، وكانوا معتزلين لهم هاربين منهم إلى كهف الجبل، مفارقين لله وفي الله الآباء(١) والأهل، مهاجرين بذلك في الله مَن كان عدواً لله.
  وأمرُ الله سبحانه لبني إسرائيل بالخروج من قرى فرعون، ففيه بينة ظاهرة جلية في الهجرة لقوم يعقلون، قال الله لا شريك له لموسى وهارون ª ورضوانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١٦ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ١٧}[الشعراء]، وقال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ٥٢}، فأمرهم سبحانه بهجرة عدوِّه، وأخبرهم بأنهم سيتبعون لتشتد عليهم فيما أمرهم به من ذلك المحنة، ولتعظم لهم ومنهم به في طاعتهم لله الحسنة، فلم يمنعهم خوفهم لفرعون وجنوده من المضي لما عهد الله إليهم في الهجرة من عهوده، مع ما دخل من الخوف في اتِّباعه عليهم، وقال سبحانه بعدُ فيهم إذ هاجروا مع هائل الخوف في الله مَن كان لله عدواً:
(١) في ثلاث نسخ: الأناس.