مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

كتاب المكنون

صفحة 137 - الجزء 2

  وإني لما زايلت قلة الآثام، وخضت في أفانين الكلام، وناسمت كثيراً من علَّام الأنام، أطللت على مكنون من العلم جسيم، واستدللت على نبأٍ من ضمائر القلوب عظيم؛ لأن صحيح الجهر يدل على كثير من مكنون السر.

  واطلعت على ذلك بخصال أُوتيتها، وأُخر تجنبتها، فأما اللواتي أوتيت فذكاة الفطنة، وقلة المشاحة في المحنة، والاصغاء لأهل الافتنان والقبول من ذوي الأسنان، وكثرة الاقتباس من أُولي الحِكم والأذهان، والزهادة في الزائل الفان، وصحة الناحية وتكافئ السريرة والعلانية، وسلامة القلب، وحضور اللب، فافهموا يا بني.

  وأما اللواتي اجتنبتها فمهازلة الحمقاء، ومشاحنة الأدباء، وترك ما تَشْرَهُ إليه النفس من عرض الدنيا، والمكاثرة والحقد والظغن والحسد، والاستزراء للحُّر والعبد، والمماكسة فيما يكسب الحمد.

  يا بني، فبعض هذه الخصال طُبِعتُ عليه بالتركيب، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب، والتمثل بالأريب اللبيب، مع رغبةٍ حداني عليها طلب الازدياد، مما أرجو به النجاة في المعاد، والزلفة يوم التَّناد.

  فلم أرَ مما آتاه الله العبد شيئاً أفضل من التقوى، ولا أنجع في العقبى من السُّلوّ عن الدنيا، وبيع ما يزول بما يبقى، ورأيت خير ما ينشأ مع المرء العقلَ المولود، والمذهب المحمود، والفهم العتيد، وكمح⁣(⁣١) النفس عن الشهوات، وقصرها عما تدعو إليه من المهلكات.


(١) كمح الدابة وأكمحها: كبحها. (قاموس).