كتاب المكنون
  يا بَنِيّ، فمن ظفر بهذه الخصال ثم عرف فضلها وسلك بنفسه سبيلها، فاز بالظفر، وأَمِنَ مِن الغير، ولم يكثر على الفائت تأسُّفه، وقلَّ عند النوازل تأفُّفه، وأبصر ما بين يديه، ولم تُنكِصه الشبهات على عقبيه، ومن لم يَقُده الفهم إلى العقل زلَّ في شبهات الجهل، ومَن لم يُلطِف النظر في غوامض الأفطان كاد أن يدهمه الجديدان، ومَن كثرت حيرته ملكته شهوته، وأَرْدَته غِرته، ونظره عدوه بعين الاستقلال، واستزراه في جميع الأحوال.
  يا بني، ولَخيرُ خصال المرء أن يكون على خلاله مستشرفاً، ولأَوَدِه مُثَقِّفاً، بما يكون له من غيره متعرفاً، من جميل يُومَئُ به إليه، أو مذمومِ خليقةٍ يطعن من أجلها عليه.
  يا بني، فكل من لم يفصل بالتمييز ما يعنيه من زمنه، ويحذر مضلات فِتَنِه، ويدخر لنفسه من جِدَتِه ما يحمد غِبَّه في عاقبته، ويختر الزيادة على النقصان، والربح على الخسران - فهو كالماصِّ لثدي أمه، المخدج قبل تَمِّه.
  يا بني، الزمان أنصح المستنصَحِين، وأرشد المسترشَدِين، وبحسب مَن صحبه أن يعرف تقَلُّبه، ويقفو آثاره، ويتصفح أخباره، ويسير لكل حقبة بسيرتها، ويلبس لها أحصف(١) لبستها، حتى تستوري نار زنده، وتستحكم قوى معتقده، وتتحصحص له طبقات دهره ما مُدَّ له المهل في عمره، ثم لا يغتر بساعات الليل والنهار، ولا يسهو سهوَ مَن صحبَ الدهر بغير الاختبار، ولا يلهو عن مصلحته كأهل الاغترار، فإذا داوم على ذلك فقد كملت خصاله،
(١) ثوب حصيف إذا كان محكم النسج صفيفه. (لسان العرب).