مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

كتاب المكنون

صفحة 139 - الجزء 2

  وأحاطت بالجميل أفعاله.

  يا بني، ولو أن العاقل ساير الأيام طول حياته بغير الاستحكام والنقض والإبرام لم يكن إلا كالصبي في مهده، المدخول في خَلَدِه؛ لأن العاقل الذاهل هو الخائضُ في بحار الظُّلم، والمرتطمُ في الخزاية مع المرتطم، والمعرفة أسطع نوراً من المقباس، وأجلى للقلوب من الهندوان للنحاس.

  يا بني، ومن أعجب العجائب ذو شيبة مرتدٍ بالنوائب، متسربل بالمصائب، يستنكر ريبَ التصاريف، ويفجر أمامه بالتسويف، وذلك لضعف نحيرته، ونسيانه لما يتصرف من أزمنته، وكثرة سهوه وغفلته عما قد أفهمته خبرته وانتظمته تجربته. ولو غُيِّب عن العاقل اللبيب كل أمر عجيب مما فُطِر عليه المفطورون، وقصر عن الإحاطة بخبره العالمون - لكان فيما طبع عليه في ذات نفسه، وما يمر به في يومه وأمسه، من الفقر والغنى، والسراء والضراء، والشدة والرخاء، والأخذ والإعطاء، والبذل والإكداء، وكثرة السكوت، وطول الصموت، والإكثار في المنطق، والهدوء وسرعة القلق، والجد والهزل، وغلبة الجهل على العقل - له أشغلُ شاغل عن الفكرة في خلائق الإنسان، وتضاد ما يختلف فيه من الجهل والعرفان، فالموموق منها معروف، والمقلي منها مشفوف.

  فمَن جنح إلى الأقل كبح واستوحل، وذم غِبَّ المصدر، وكان من أمره على خطر، وأندمته آخريته لما قد دلته على علمه أوَّلِيَّته، وليس بحكيم مَن مال إلى الأمر المذموم، والخيلاء بالفضل مجانبٌ لسبيل العقل. ومَن جعل غيره لعينه نصباً، وأظهر على من سواه في شيء من أفعاله عتباً، وكان الذي فيه لطالب عثرته