كتاب المكنون
  وألبسه عند من كان به جاهلاً ثوب المحامد، وأعلن من نبله ما كان مستتراً عن الغائب والشاهد، وأظهر إعزازَه وتطوُّلَه بما كان من تذلِّلهُ له وجثوِّه بين يديه متنصلاً إليه ملحاً في مسألته، كالعبد المعترف بزلته، يبذل له من نفسه الصبر، ويعطيه التوبة إلى آخر الدهر.
  فيا ويح معتذر أسلكته في مضايق الذل عجلته! وألبسته ثوب الخضوع والاستكانة هفوته، وأعلت لصاحبه عليه يداً أكسبته حمداً ما كان الأبد أبداً، ولَرُبَّ مغتبطٍ بمنال شريف الثناء، لولا ما لا يأمنه من قلة الاغتفار للأذى لرَغِب إلى الله فيه في كل صباح ومساء، لِتَعظُمَ باحتماله عند الناس حظوتُه، وتكبر عندهم منزلتُه. ومن نزغت به النزغات فيما بينه وبين صنوٍ له كان بمودته ضنيناً، وله على ملمات دهره معيناً، فعزم على مقاطعته، وباينه مباينة أهل عداوته، وحاول به الغدر والمكر ليقطع من أسبابه أسبابَه، ويفجع به أحبابه، ثم لم يدفع غضبه بالرضا، وصدوده بالوفاء، ونزغة الشيطان بالحياء، ويرجع إلى ما هو به أولى من محض الصفاء وخالص الإخاء، ويميز ما مُنِي به منه(١) من الأمور المؤلمات، وما كان قد أضحك به سنه وأطال به سروره في الليالي الخاليات، فإذا أوضح له التمييز تطاولَ الحسنات على السيئات فأداسها بقدمه، ولم يصفح عن صنوه وعن جرمه، فليس من أهل الحِكَم، ولا السامين إلى مراتب الهمم، وعما قليل سيئُول إلى الندم إذا تحاماه الإخوان، وطرقَه الزمان بما ليس له عليه أعوان.
  وإن سلَّ من قلبه السخائم، وجرى في ميدان المكارم، ولم يأتِ أمراً يكره أن
(١) «منه» زيادة من (أ).