الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة النور

صفحة 238 - الجزء 3

  ما ينكح به من المال {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ} ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم، وربطا على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء. وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد من مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} مرفوع على الابتداء. أو منصوب بفعل مضمر يفسره {فَكاتِبُوهُمْ} كقولك: زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. والكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة: وهو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم، فإن أداها عتق. ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق منى إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق. ويجوز عند أبى حنيفة ¥ حالا ومؤجلا. ومنجما وغير منجم؛ لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياسا على سائر العقود. وعند الشافعي رضى الله عنه: لا يجوز إلا مؤجلا منجما. ولا يجوز عنده بنجم واحد؛ لأنّ العبد لا يملك شيئا، فعقده حالا منع من حصول الغرض، لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلا. ويجوز عقده على مال قليل وكثير، وعلى خدمة في مدة معلومة، وعلى عمل معلوم مؤقت: مثل حفر بئر في مكان بعينه معلومة الطول والعرض وبناء دار قد أراه آجرها وجصها وما يبنى به. وإن كاتبه على قيمته لم يجز. فإن أداها عتق. وإن كاتبه على وصيف، جاز، لقلة الجهالة ووجب الوسط، وليس له أن يطأ المكاتبة، وإذا أدى عتق، وكان ولاؤه لمولاه، لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن رضى الله عنه: ليس ذلك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب. وعن عمر رضى الله عنه: هي عزمة من عزمات الله. وعن ابن سيرين مثله وهو مذهب داود {خَيْراً} قدرة على أداء ما يفارقون عليه. وقيل: أمانة وتكسبا. وعن سلمان ¥ أن مملوكا له ابتغى أن يكاتبه فقال: أعندك مال؟ قال: لا، قال: أفتأمرنى أن آكل غسالة أيدى الناس {وَآتُوهُمْ} أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله تعالى {وَفِي الرِّقابِ} عند أبى حنيفة وأصحابه ¤. فإن قلت: هل يحل لمولاه إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق