الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الفرقان

صفحة 285 - الجزء 3

  على الفعل كفعول ومفعال ومفعيل. وقرئ: نسقيه بالفتح. وسقى، وأسقى: لغتان. وقيل: أسقاه: جعل له سقيا. الأناسى: جمع إنسى أو إنسان. ونحوه ظرابى في ظربان، على قلب النون ياء، والأصل: أناسين وظرابين. وقرئ بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل، كقولك: أناعم، في: أناعيم. فإن قلت: إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة ذلك، كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. قلت: لما كان سقى الأناسى من جملة ما أنزل له الماء، وصفه بالطهور إكراما لهم، وتتميما للمنة عليهم، وبيانا أن من حقهم حين أراد الله لهم الطهارة وأرادهم عليها أن يؤثروها في بواطنهم ثم في ظواهرهم، وأن يربئوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام: ولأنها قنية الأناسى، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، فبهم غنية عن سقى السماء، وأعقابهم - وهم كثير منهم - لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين من مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟ قلت: لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم.

  {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ٥٠}

  يريد: ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل $ - وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر - ليفكروا ويعتبروا، ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا {فَأَبى} أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها. وقيل: صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل، وجود ورذاذ، وديمة ورهام؛ فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. وعن ابن عباس ®: ما من عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء، وتلا هذه الآية. وروى