الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الفتح

صفحة 332 - الجزء 4

  بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخير ما لا يخفى. فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة: وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة - من حيث إنه جهاد للعدوّ - سببا للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. وقيل: هو فتح الحديبية، ولم يكن فيه قتال شديد، ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم. وعن الكلبي: ظهروا عليهم حتى سألوا الصلح. فإن قلت: كيف يكون فتحا وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحا مبينا. وعن موسى بن عقبة: أقبل رسول الله ÷ من الحديبية راجعا، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت وصد هدينا، فبلغ النبي ÷ فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا» وعن الشعبي: نزلت بالحديبية وأصاب رسول الله ÷ في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة أصاب: أن بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وبلغ الهدى محله، وأطعموا نخل خيبر، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة. وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله ÷ ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى