الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة التغابن

صفحة 547 - الجزء 4

  أنه خلق منتصبا غير منكب، كما قال ø {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. فإن قلت: فكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت: لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح، وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه. ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال، والبيان. نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور: أنّ شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه، فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى {فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق: أعظم نعمة من الله على عباده، والكفر: أعظم كفران من العباد لربهم.

  {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ٥ ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ٦}

  {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} الخطاب لكفار مكة. و {ذلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّلهم من العذاب في الآخرة {بِأَنَّهُ} بأنّ الشأن والحديث {كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ ...... أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا} أنكروا أن تكون الرسل بشرا، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا {وَاسْتَغْنَى اللهُ} أطلق ليتناول كل شيء، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. فإن قلت: قوله {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ} يوهم وجود التولي والاستغناء معا، والله تعالى لم يزل غنيا. قلت: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.