سورة البلد
  ببلده، على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه. فقال: وأنت حل بهذا البلد، يعنى: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرّم ما شاء. قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة. ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرّم دار أبى سفيان، ثم قال: إنّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال ÷: «إلا الإذخر». فإن قلت: أين نظير قوله {وَأَنْتَ حِلٌ} في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله ø {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟ فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت: رسول الله ÷ ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ابراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟ قلت: فيه ما في قوله {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} أى بأى شيء وضعت، يعنى موضوعا عجيب الشأن. وقيل: هما آدم وولده. وقيل: كل والد وولد. والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه. وأصله: كبده، إذا أصاب كبده. قال لبيد:
  يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد