الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة البقرة

صفحة 330 - الجزء 1

  والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه. ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس ®: أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وشهادة الزور، وكتمان الشهادة. وقرئ: قلبه، بالنصب، كقوله: {سَفِهَ نَفْسَهُ} وقرأ ابن أبىعبلة: أثم قلبه، أى جعله آثما

  {لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢٨٤}

  {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} يعنى من السوء يحاسبكم به الله {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ} لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر ® أنه تلاها فقال: لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ، ثم بكى حتى سمع نشيجه فذكر لابن عباس فقال: يغفر الله لأبى عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل {لا يُكَلِّفُ اللهُ} وقرئ: فيغفر ويعذب، مجزومين عطفاً على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا. وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم. والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله: