فصل [في ذكر الفناء والعدم]
  قال #: (قلت وبالله التوفيق: لعلم الله تعالى أن أكثر العصاة لا(١) يُوقنون به تعالى) ولا بالجزاء، (فلو أنه تعالى عاقبهم) في دار الدنيا من غير فنائها، و (من غير خلق ما يعلمون به ضرورةً أن ذلك) الذي لحقهم (عقوبةٌ) لهم على عصيانهم (لم يعرفوا كون ذلك عقوبةً، وإنما يعدونه) أي: ذلك العقاب في الدنيا (من نكبات الدهر كما يزعمون) وهذا في حق العصاة، أمَّا في حق المُمتحنين من المؤمنين فهو بيان قوله # (وأن أكثر المُمْتَحَنِيْن لوْ جُوْزُوا) في الدنيا (مع عدم مثل ذلك) أي: مع عدم خلق ما يعلمون به ضرورةً أنه جزاءٌ (لم يعلموا ضرورة أنَّ الواصلَ إليهم جزاءٌ؛ بل يحصل التجويز أنَّه من سائر التفَضُّلات) منه تعالى على عباده في دار الدنيا، (و) أيضاً لو وقع الجزاء (مع عدم كشف الغطاء بخلق ذلك) أي: بخلق ما يعلمون به ضرورة أنَّ الواصلَ إليهم جزاءٌ، لكان في ذلك (إثباتٌ لحجة الأشقياء على الله تعالى لانتفاء الفرق عندهم بين من يخافه تعالى بالغيب) أي: قبل يوم القيامة، (وبين من لا يخافه إلَّا عند مشاهدة العذاب، فيقولون: تُبْنَا كالتائبين، وأطعناك كالمطيعين) فلِمَ تعذبنا ولِمَ لا تقبل توبتنا كما قبلتها ممن هو حي مثلنا؟
  (ومع الفناء ثم البعث يعلمون علماً بَتَّاً) أي: لا شك فيه؛ (لأجل فنائهم وإعادتهم - أنَّ الله حقٌ، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}) [فصلت: ٥٣] أي: يتبين لهم أن الله هو الحق وأنه مجازيهم بما عملوا، (و) يعلمون أيضاً (أنَّ الواصلَ إليهم جزاءٌ قطعاً؛ لإخبار الله تعالى إياهم بذلك) أي: بالمجازاة (في الدنيا على ألْسِنَة الرسل، ولإخبارهم أيضاً في الآخرة به) أي: بأنَّه جزاءٌ، (فيكون) ذلك (أعظمَ حسرةً على العاصين، وأتمَّ سروراً للمُثابين، مع انتفاء حجة الأشقياء على الله) لما شاهدوه من الفصل بين الدارَيْنِ؛ (لأنَّ الآخرةَ دارُ جزاءٍ لا دار عمل) فثبت بما ذكرناه حسنُ فناءِ العالم، (والله تعالى أعلم).
(١) لفظ: (لا) سقط من نسخة (ب).