باب التوكيد
  أصابنا مطر من السماء، وطلع علينا نيل من الأرض. قال الله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل: ٢٦]، وقال: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ}[الأنعام: ٣٨] وقد علم المخاطب أنَّ المطر لا يكون إلا من السماء، والنيل من الأرض، وأنَّ السقف لا يخر إلا مِنْ فوق، والطائر لا يطير بغير جناحين، ولكن أريد بذلك المبالغة والذي يجيء تحسينا للفظ. قولهم: أنت في حلّ وبل. وزيد جائع نائع، وعطشان نطشان، والثوبُ حَسن بسنٌ. وفلانُ يكذب وينذبُ. وله الويل والأليل. كذلك ما أشبهه. ذكر ذلك كثير من اللغويين والنحويين: إنَّ هذه الألفاظ إنَّما تأتي اتباعًا لا معنى لها إلا التحسين وترصيع اللفظ بعضه ببعض، متجانسةً ومتوازنةً، وزعم آخرون منهم الأصمعي: إنَّ لكل واحد من هذه الألفاظ معنى، ويختص بِهِ غَير مَعْنَى الآخر. فمعنى حل وبل حلَّ وسعه، والنطشان الجائع، والنائعُ العطشان والبسن الناعم والنذب التصرفُ في الكذب والأليل الأنين. وقد قيل إن معنى التوكيد تقرير المعنى في النفس لإزالة الاحتمال واللبس وقيل لإزالة الشك والتبعيض، ومعاني هذه العبارات واحدة وتفسير ذلك أنَّك لو قلت: جاء الأميرُ وصاح السلطان للناس الأمان. احتمل أن يكون جاء بعض مأموريه، وصاح بعض خدمه. فإذا قُلت: نَفسُهُ. زال اللبس وكذلك لو قُلت جاءتني تميم من مرّ، شك السامع هل جاءك أكثرهم دون أقلهم؟ وأكابرهم دون أصاغرهم، فإذا قلت جاءتني تميم كلها أو قضها وقضيضُها. وهذا اللفظ غريب زال الشك والتبعيض. فافهم ذلك.
  فصل: وأما على كم ينقسم التوكيد؟ فهو ينقسم على ضربين: توكيد اللفظ. وتوكيد المعنى.
  فتوكيد اللفظ: هو إعادة اللفظ المؤكد بعينه، أو لفظ يوازنه للتحسين، أو يثنيه ويلاقيه مِن جِهَةِ المعنى للمبالغة وقد مثل جميع ذلك. وتوكيد المعنى يكون بستة ألفاظ، وهي: نفسه، عينه كله أجمع، أكتع أبصع، وهذه الستة أصل ومحمول على الأصل. فالأصل منها الأربعة الأول وهي نفسه، وعينه، وكله، وأجمع. والمحمول