الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الزخرف

صفحة 237 - الجزء 4

  {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} بمعنى: أفننحى عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض. ومنه قول الحجاج: ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. وقال طرفة:

  أضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسّيف قونس الفرس

  والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم من إنزاله الكتاب. وخلقه قرآنا عربيا، ليعقلوه ويعملوا بمواجبه. وصفحا على وجهين. إما مصدر من صفح عنه: إذا أعرض، منتصب على أنه مفعول له، على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. وإمّا بمعنى الجانب من قولهم: نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه، على معنى: أفننحيه عنكم جانبا، فينتصب على الظرف كما تقول: ضعه جانبا، وامش جانبا. وتعضده قراءة من قرأ: صفحا بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر: وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أى: صافحين معرضين {أَنْ كُنْتُمْ} أى: لأن كنتم. وقرئ: إن كنتم، وإذ كنتم. فإن قلت: كيف استقام معنى إن الشرطية، وقد كانوا مسرفين على البتّ؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر، المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق: فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه استجهالا له.

  {وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ٦ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٧ فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ٨}

  {وَما يَأْتِيهِمْ} حكاية حال ماضية مستمرة، أى: كانوا على ذلك. وهذه تسلية لرسول الله ÷ عن استهزاء قومه. الضمير في {أَشَدَّ مِنْهُمْ} للقوم المسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله ÷ يخبره عنهم {وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أى سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله ÷، ووعيد لهم.

  {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ٩