الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الحجرات

صفحة 368 - الجزء 4

  يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض؛ وأن تقصد إفادة الشياع، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة على التوحيد، إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله، ولا يأتى ما عليه من النهى والإنكار، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به، فيؤدى ذلك - وإن أوجده واحد - إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. وقوله تعالى {عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهى عنه، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزن عند الله: خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعلمهم من ذلك بمعزل، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضدّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرجيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه: خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. وفي قراءة عبد الله: عسوا أن يكونوا، وعسين