الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الذاريات

صفحة 399 - الجزء 4

  وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقوله {هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم، وأن يكون المعنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلا، ويحيونه كله؟ قلت: لا، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب، ولا تقول. زيدا ما ضربت: السائل: الذي يستجدى {وَالْمَحْرُومِ} الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وعن النبي ÷: «ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» قالوا: فما هو؟ قال «الذي لا يجد ولا يتصدق عليه» وقيل: الذي لا ينمى له مال. وقيل: المحارف الذي لا يكاد يكسب.

  {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ٢٠ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ٢١}

  {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ} تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوّة كالبساط لما فوقها كما قال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها، وهي مجزأة: فمن سهل وجبل وبر وبحر: وقطع متجاورات: من صلبة ورخوة، وعذاة وسبخة، وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد {وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال: من الوحشي والإنسى والهوام، وغير ذلك {لِلْمُوقِنِينَ} الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وإيقانا إلى إيقانهم {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق: ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوّى في الأعضاء