الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الإنسان

صفحة 671 - الجزء 4

  والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر. فإن قلت: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها} علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنها في موضع الحال من المجزيين، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرئ: ودانية، بالرفع، على أن ظلالها مبتدأ، ودانية خبر، والجملة في موضع الحال، والمعنى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، والحال أن ظلالها دانية عليهم، ويجوز أن تجعل {مُتَّكِئِينَ} و {لا يَرَوْنَ} و {دانِيَةً} كلها صفات لجنة. ويجوز أن يكون {وَدانِيَةً} معطوفة على جنة، أى: وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله {وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} لأنهم وصفوا بالخوف: {إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا}. فإن قلت: فعلام عطف {وَذُلِّلَتْ}؟ قلت: هي - إذا رفعت {وَدانِيَةً} -: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من دانية، أى: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم. أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها، وإذا نصبت {وَدانِيَةً} على الوصف، فهي صفة مثلها، ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها: كان صحيحا، وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا {قَوارِيرَا قَوارِيرَا} قرئا غير منونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة، وفي الثاني لإتباعه الأوّل، ومعنى قوارير من {فِضَّةٍ} أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. فإن قلت: ما معنى كانت؟ قلت: هو من «يكون» في قوله {كُنْ فَيَكُونُ} أى: تكوّنت قوارير، بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه كان في قوله: كان مزاجها كافورا. وقرئ: قوارير من فضة، بالرفع على: هي قوارير {قَدَّرُوها} صفة لقوارير من فضة. ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ} على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: قدّروها، على البناء للمفعول. ووجهه أن يكون من قدر، منقولا من قدر. تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان: إذا جعلك قادرا له. ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا. وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه.