الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة الأنفال

صفحة 226 - الجزء 2

  بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الوحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال: مالى لا أرى هذين الديكين أربعة؟

  {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٤٥ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ٤٦}

  {إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً} إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء اسم للقتال غالب {فَاثْبُتُوا} لقتالهم ولا تفرّوا {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره. وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين # في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج - من البلاغة والبيان ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح - دليلا على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقهم الأمر {وَلا تَنازَعُوا} قرئ بتشديد التاء {فَتَفْشَلُوا} منصوب بإضمار أن، أو مجزوم لدخوله في حكم النهى، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالتاء والنصب، وقراءة من قرأ: ويذهب ريحكم، بالياء والجزم. والريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:

  يَا صَاحِبَىَّ ألَا لَاحَىَّ بِالْوَادِى ... إلّا عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَادِ

  أتُنْظِرَانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أمْ تَعْدُوَانِ فَإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِى