وإذا قد ذكرنا اسمه # فنذكر صفته #:
  طحنًا، وصيرهم جَزَرَ السباع، وقرى النسور(١)؛ فهذه والله هي الصفات التي يرتقي بها العبد في الدارين أرفع الدرجات، وهو الجدير بقول من قال:
  أَنَاةٌ فَإِنْ لم تُغْنِ أَعْقَبَ بَعْدَهَا ... وَعِيْدًا فَإِن لم يُغْنِ أَغْنَتْ عَزَائِمُهُ(٢)
  ومما دلت عليه القضايا المذكورة عِظَمُ مقام أمير المؤمنين #؛ فإن رسول الله ÷ أمره بقتال الطوائف الثلاث، مع أنهم ما خرجوا عن إيمان، ولا كفروا بالله وبرسوله؛ بل لعصيانهم لأمير المؤمنين بالنكث عليه في الأولى، وبعدم الدخول في طاعته في الثانية، وسَبِّهِ وتكفيره في الثالثة؛ فإنه ÷ علق الأمر بالقتال بالنكث وما ذكر معه؛ فدل على أنه علة القتال، ولا يقال: إن أمير المؤمنين قال في كلامه في الخوارج: (قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس)، وأنه جعله عِلَّةَ قِتَالِهِمْ، وكذلك أهل الجمل لم يبادرهم بالقتال حتى بدؤوه به؛ فَدَلَّ على أن قَتْلَهُ لهم ليس لعدم طاعته؛ بل للفساد في الأرض، والبغي على المسلمين؛ لأنا نقول: لا مانع من تعدد العلة، وأنه # تسامح في ما هو عليه واستأنى بهم رَجَاءَ رُجُوعِهِمْ، فلما تحقق منهم عدم الإنابة، بل تحقق منهم الزيادة على ما كان مقتضيًا تَامَّا لقتالهم؛ فحينئذ أقدم عليهم؛ وهذا خاص به: أعني قَتْلَ مَنْ نَكَثَ، أو لم يبايع، أو كَفَّرَهُ وفارق طاعته.
  وأما سكوته عمن لم يبايعه مثل جماعة من الصحابة اعتزلوا في بيوتهم بعد قتل عثمان: كسعد بن أبي وقاص وغيره وعَذَرَهُمْ(٣)، وقال: إِنَّهُمْ ما نَصَرُوا حَقًّا، ولا خَذَلُوا بَاطِلًا، وسكت عنهم، بل لما اعتزل سعد ونزل العقيق وبني بها دارا، قال أمير المؤمنين: لِلَّهِ منزل نزله سعد وابن عمر؛ لئن كان ذنبا إنه لصغير، وإن كان حَسَنًا إنه لعظيم! رواه الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ [١/ ٢٢] في ترجمة سعد في
(١) الجزرُ: اللحم الذي تأكله السباع، يقال: تركوهم جزر السباع: أي قتلوهم في الفلاة.
(٢) في بعض النسخ: أغنت عوامله ولعل البيت لإبراهيم بن العباس الصولي معجم الأدباء ٦/ ١٨٦.
(٣) بايعه # المهاجرون والأنصار وتخلف جماعة منهم: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، ولم يصح أنه عذرهم بل تألَّمَ منهم، ومِنْ خِذْلَانِهِمْ للحق.