[ذكر ورعه #]
  وَذَا بَلِيْغ نحوه ... طَوْعًا تُسَاقُ الخَطَب
  هذا وقد ثبت بلا نزاع أن أمير المؤمنين # أُعْطِيَ من البلاغة ما فاق بها مَنْ قَبْلَهُ، وَاعْتَرَفَ بِهَا البُلَغَاءُ مِنْ بَعْدِهِ؛ فهو إمام البلغاء، وسَيِّدُ الفُصَحَاءِ؛ وفي كلامه قيل: هُوَ دُونَ كَلَام الخالق، وفوق كلام المخلوقين.
  ومن كلامه # تَعَلَّمَ الناسُ الكِتَابَةَ والخطابة، قال عبدالحميد(١) الذي سارت به الأمثال في البلاغة: حَفِظْتُ سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت، وقال أَوْعَظُ خَلْقِ الله ابْنُ نُبَاتَةَ(٢): حَفِظْتُ مِنْ مَوَاعِظِ علي بن أبي طالب # مائةَ فَصَّل. ولَمَّا قال مِحْفَنُ بن أبي محفن(٣) لمعاوية: جِئتُكَ مِنْ عِنْدِ المائة أَعْيَى الناسِ، قال: ويحك كيف يكونُ أَعْيَى الناسِ؟! والله ما سَنَّ الفصاحة لقريش غيره(٤). وقال الشريف الرضي جامع نهج البلاغة - وهذا الشريف هو إمام البلغاء، ومَنْ لَا يُدْرِكُ شَأْوَهُ الشُّعَرَاءُ:
  أَمَّا كَلَامُهُ - يعنى به كلام أمير المؤمنين # - فهو البحر الذي لا يُسَاجَل، والجم الذي لا يُحَافَل، وقال الشريف: إِنَّ كَلَامَهُ # يدور على أقطاب ثلاثة، أولها: الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل وثالثها: الحكم والمواعظ. انتهى(٥).
  قلتُ: وإذْ قَدْ أُشِير في الأبيات إلى بلاغته، فلا عُذْرَ عن التَشَرُّفِ بذكر قطرات من بحره العذب، من كُلِّ قُطب من الثلاثة: فَمِنْ خُطَبِهِ الشهيرة قوله #:
(١) ابن يحيى بن سعد الكاتب، مولى بني عامر بن لؤي بن غالب، كان كاتبا لمروان بن محمد الملقب بالحمار، آخر ملوك بني أمية، يقال: إنه كتب كتابًا حِمْلَ جَمَلٍ لأبي مسلم الخراساني فلم يقرأه حتى تم له النصر على بني أمية وزالت دولته، فأمر بفتحه فكان أوله: لو أراد الله بالنملة فلاحا لما أنبت لها جناحًا! وساق فيه كلامًا ينخلع له القلب! فقال: لو قرأته لَفَشِلْتُ، وظل مع مروان حتى قُتِلَا مَعا في بوصير بمصر. الأعلام ٣/ ٢٩٠.
(٢) أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن الفارقي، ولد سنة ٣٣٥ هـ صاحب الخطب المنبرية، كان مقدما في علوم الأدب، ولي خطابة حلب لسيف الدولة، توفي سنة ٣٧٤ الأعلام ٣/ ٣٤٧، والعبر ٢/ ٣٧٣.
(٣) الضبي، وفد على معاوية ووقع في علي. تاريخ دمشق ٥٧/ ٩٩.
(٤) شرح النهج لابن أبي الحديد ١/ ٤١، وينظر تاريخ دمشق ٥٧/ ٩٩.
(٥) نهج البلاغة مقدمة الرضي ٧٧ - ٨١، وشرحه لابن أبي الحديد ١/ ٥٥.