الروضة الندية شرح التحفة العلوية،

محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير (المتوفى: 1182 هـ)

[ذكر ورعه #]

صفحة 323 - الجزء 1

  أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ بِاطَّلاع، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ، وغَدًا السَّبَاقَ والسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ، وَالغَايَةُ النَّارُ؛ أَفَلَا تَائِبُ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنيَّتِهِ؟! أَلَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمٍ يُؤْسِهِ؟! أَلَا وَإِنَّكُمْ في أَيَّامٍ أَمَل مِنْ وَرَاءِهِ أَجَلْ: فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامٍ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورٍ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضُرَّهُ أَجَلُهُ! وَمَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامٍ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورٍ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وضَرَّهُ أَجَلُهُ! أَلَا فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا! أَلَا وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَنْفَعُهُ الحَقُّ يَضُرَّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ بِهِ الهُدَى يَجْرِ بِهِ الضَّلَالُ إلى الرَّدَى، أَلَا وَإِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بالظَّعَن، ودُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ، وإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتَّبَاعُ الهَوَى وطُولُ الأَمَلِ؛ فَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرِزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَدًا، قال الشريف الرضي | بعد سياقه لها:

  أقول: لَوْ كَان كَلامُ يَأْخُذُ بالأعناق إلى الزُّهد في الدنيا، ويَضْطَرُّ إلى عَمَل الآخِرَةِ لكانَ هذا الكلام؛ وكَفَى به قَاطِعَا لِعَلَائِقِ الآمال، وقَادِحًا زِنَادَ الاتَّعَاظِ والانْزِجَارِ⁣(⁣١).

  ومِنْ أَعْجَبِهِ قَوْلُهُ: «أَلَا وَإِنَّ اليومَ المضمارَ وغَدًا السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الجَنَّةُ، وَالغَايَةُ النَّارُ»؛ فَإِنَّ فيه مع فَخَامَةِ اللفظ، وعِظَمِ قَدْرِ المعنى، وصَادِقِ التمثيل، وواقع التَّشْبِيهِ، سِرًّا عَجِيْبًا، وَمَعْنًى لَطِيْفًا، هو قوله: والسبقة الجنة، والغاية النار، فخالف بين اللفظين؛ لاختلاف المعنيين، ولم يَقُلْ: والسبقة، النار، كما قال: والسبقة الجنة؛ لِأَنَّ الإِسْتِبَاقَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلى أَمْرٍ مَحْبُوبِ وغَرَضِ مَطْلُوبِ؛ وَهَذِهِ صِفَةُ الجَنَّةِ، ولَيْسَ هذا المعنى مَوجُودًا في النَّارِ أَعَاذَنَا الله منها؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ: والسبقة النار، بل قال: والغاية النار؛ لِأَنَّ الغَايَةَ قَدْ يَنتَهى إِلَيْهَا مَنْ لا يَسُرُّهُ الانتهاء إليها ومَنْ يَسُرُّهُ ذلك؛ فَصَلَحَ أَنْ يُعَبِّرَ بها عن الأمرين معا، فهي في هذا الموضع: كالمصير والمآل، قال تعالى: {قُلۡ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمۡ إِلَى ٱلنَّارِ ٣٠}⁣[إبراهيم: ٣٠]؛ فَلَا يَصْلُحُ


(١) شرح النهج ١/ ٣٣٩ - ٣٤٠ رقم ٢٨، والجامع الكبير ١٦/ ٤٤٥ رقم ٨٦١٠، والبداية والنهاية ٨/ ٨.