الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

سورة إبراهيم

صفحة 557 - الجزء 2

  وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ٣٤}

  {اللهُ} مبتدأ، و {الَّذِي خَلَقَ} خبره، و {مِنَ الثَّمَراتِ} بيان للرزق، أى: أخرج به رزقا هو ثمرات. ويجوز أن يكون {مِنَ الثَّمَراتِ} مفعول أخرج، و {رِزْقاً} حالا من المفعول، أَو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق {بِأَمْرِهِ} بقوله كن {دائِبَيْنِ} يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات، وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم {وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ} من للتبعيض، أى آتاكم بعض جميع ما سألتموه، نظراً في مصالحكم. وقرئ من كلّ بالتنوين، وما سألتموه نفى ومحله النصب على الحال أى: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، ويجوز أن تكون {ما} موصولة، على: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أَحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال {لا تُحْصُوها} لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، هذا إذا أَرادوا أَن يعدوها على الإجمال. وأمّا التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله {لَظَلُومٌ} يظلم النعمة بإغفال شكرها {كَفَّارٌ} شديد الكفران لها. وقيل ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. والإنسان للجنس، فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه.

  {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ٣٥ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣٦}

  {هَذَا الْبَلَدَ} يعنى البلد الحرام، زاده الله أَمناً، وكفاه كل باغ وظالم، أَجاب فيه دعوة خليله إبراهيم # {آمِناً} ذا أمن. فإن قلت: أَى فرق بين قوله {اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} وبين قوله {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}؟ قلت: قد سأل في الأوّل أَن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً {وَاجْنُبْنِي} وقرئ: وأجنبنى، وفيه ثلاث لغات: جنبه الشر، وجنبه، وأجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد، وأهل نجد