التيسير في التفسير،

بدر الدين بن أمير الدين (المتوفى: 1431 هـ)

سورة المائدة

صفحة 404 - الجزء 2

  


  مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي} وهذا السؤال شبه سؤال الموءودة: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}⁣[التكوير: ٩] وفيه فائدة أخرى: استدعاء التوبيخ والتقريع للنصارى، الذين اتخذوا عيسى إلهاً بما في جواب عيسى # وذكر أمه لبيان أنه سواء اتخاذه إلهاً واتخاذها إلهاً؛ أو لأن بعض النصارى أشركوا بها كما يحكى عن بعض الحبشة، ولعل شركهم ليس تصريحاً بإلهيتها، بل بالغلو فيها ونسبة ما لا يقدر عليه إلا الله إليها، من مثل: شفاء المريض، وإطالة العمر، وبركة الرزق، وإنزال المطر، ومنع المطر عن العصاة غضباً عليهم، فاتخاذهم لها إلهاً: دعاؤها لجلب النفع الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

  ومعنى {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يتخذوهما إلهين قريبين منهم في اعتقادهم، يعتبرون نفعهما وإجابتهما للدعاء أقرب من إجابة الله، ويتخيلون الله بعيداً منهم، فهذا معنى {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وليس معناه: نفي إلهية الله، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا}⁣[الكهف: ٩٣] وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا}⁣[الكهف: ٩٠] أي الشمس، وقوله تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا}⁣[مريم: ١٧] وغير ذلك.

  {قَالَ} أي عيسى {سُبْحَانَكَ} تنزيهاً وتبعيداً عن أن يكون معك إله {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أن عبوديتي لك وإيماني بالتوحيد لك يمنعني أن أقول ما ليس لي بحق، ونظير هذا النفي: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً}⁣[النساء: ٩٢] {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}⁣[يونس: ١٥] فهو نفي مؤكد بالدلالة على المانع.

  {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} نفى أن يكون قال للناس: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}