سورة الأنعام
  
  ومن كرمه {كَتَبَ} وأوجب على نفسه {الرَّحْمَةَ} فهو لا يعاجل العاصين، وهو يدعو إلى التوبة ويعد قبولها، ويحذر عباده نفسه، ولذلك أرسل الرسل رحمة للعالمين.
  {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} إلى موقف العرض على الله يوم القيامة وإلى ما يكون في يوم القيامة من الحساب والجزاء، فالجمع {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} جمعهم إلى ما فيه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: ٩].
  {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال الشرفي في (المصابيح): «{الَّذِينَ} موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} والمعنى: ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم» انتهى.
  وهذا عندي أحسن الأقوال فيها، فأول الآية احتجاج عليهم وآخرها تسجيل عليهم بالخذلان، وأنهم بسبب تمردهم وعنادهم قد خسروا أنفسهم، بأن فوتوا عليها سبيل السلامة، وسببوا لها الخذلان المؤدي إلى الخسارة الدائمة، فأول خسارتهم أنفسهم: بُعْدهم عن قبول الحق بقسوة قلوبهم وكراهتهم للحق وتكبرهم عن قبوله، حتى لم يبقَ لهم صلاحية لقبوله وصاروا، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ...} فلذلك كانوا قد خسروا أنفسهم بوقوعهم في سبب الخسارة الدائمة بدخول النار، وترتب أنهم لا يؤمنون على خسارة أنفسهم بوقوعها في الخذلان الشديد والضلال البعيد.