التيسير في التفسير،

بدر الدين بن أمير الدين (المتوفى: 1431 هـ)

سورة البلد

صفحة 496 - الجزء 7

  


  والفرار من تقدير (الهمزة) يلجئ إلى وجه ضعيف، وقد بيّن ضعف تلك الوجوه في كتاب (إعراب القرآن) إلا وجهاً واحداً، وهو أن بعضهم زعم أن قوله تعالى: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} دعاء عليه كقولك: لا نجا، وقولك: لا سلم، وأعجبه هذا لصحته في صناعة النحو ولكنه ضعيف من جهة المعنى؛ لأن اللّه يدعو الإنسان إلى فعل الخير، ويدعوه إلى الإيمان والخروج من الجاهلية، ولذلك أرسل الرسول وأنزل القرآن، فكيف يدعو على الإنسان أن لا يفعل الخير وهو يدعوه إلى الخير، مع أن الدعاء من اللّه تعالى لا يكون لأنه يفعل ما يشاء؛ ولا معنى لأن يدعو بمثل هذا، وإنما ورد في القرآن استعمال الدعاء الذي اعتادته العرب لا لقصد الدعاء، بل للدلالة على الغضب نحو: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}⁣[البروج: ٤] ألا ترى أنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن، وقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}⁣[التوبة: ٣٠] فهو واضح أن ليس المراد به الدعاء حقيقة بل ما ذكرت، وهو الدلالة على الغضب لأجل مقالتهم الشنيعة.

  وعلى الجملة: فالقول بأن قوله تعالى: {فَلاَ اقْتَحَمَ} دعاء عليه هو أضعف الأقوال من جهة المعنى، ولو كان المراد الدعاء عليه للدلالة على الغضب، لاستعمل الكلمات التي اعتادتها العرب لذلك، دون أن يدعوا عليهم أن لا يعتقوا نسمة، وهذا واضح فهو قرينة أن الكلام فيه تقدير يستقيم به التركيب والمعنى، ولم يبق إلا تقدير (الهمزة) وقد أثبتوه في {لاَ أُقْسِمُ} وهو أقوى الوجوه فيها لما مر.

  أما قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ} فيصلح عطفه عليه مع تقدير (الهمزة) بلا إشكال، فأما استعمال {ثُمَّ} فقيل فيه: أنه للترقي من درجة إلى أبعد منها، أي كقول الشاعر:

  إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده