الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

البحث الثاني في إيراد الأمثلة فيهما

صفحة 112 - الجزء 1

  حقيقتها، هذا ما قاله ابن الأثير، وهو جيد لا غبار عليه، لكنه يمكن دخول المجاز فيها من وجه آخر، وهو أن الله تعالى أخبر عما كانوا عليه من الإغراق في الرد والتكذيب والمبالغة في الإنكار لما جاء به الرسول بأن الجبال الرواسي تزول من شنع هذه المقالة وتفاحش هذه الجهالة كما قال تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ٩٠ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ٩١}⁣[مريم: ٩٠ - ٩١] فهكذا هذا، ومن هذا قوله تعالى:

  {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ٢٢٤ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ ٢٢٥}⁣[الشعراء: ٢٢٤، ٢٢٥] فاستعار الأودية للمغازى والمقاصد الشعرية التي يلخصونها بأفئدتهم ويصوغونها بأفكارهم، وخص الاستعارة بالأودية دون الطرق والمسالك، لأن المعاني الشعرية تستخرج بالفكرة والروية، وفيهما خفاء وغموض، فلهذا كانت الأودية أليق بالاستعارة، وفي القرآن استعارات كثيرة.

  النوع الثاني الاستعارة في الأخبار النبوية

  فمن ذلك قوله ÷: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعة عليكم»⁣(⁣١) فاستعار هاذم اللذات للموت، وهو مطوى الذكر، ولو ظهر لم يكن هناك استعارة، وفي هذه الاستعارة من الرقة واللطافة ما لا يخفى حاله على من ضرب في هذه الصناعة بحظ وافر وكان له فيها القدح القامر.

  ومن ذلك قوله ÷: «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار ذكر النار للرأي والمشورة، والمعنى لا تهتدوا بآراء المشركين، ولا تتكلوا على أقوالهم، لما فيها من الخديعة والمكر والغرر، ومن ذلك قوله #، «إن الغضب ليوقد في فؤاد ابن آدم النار ألا تراه إذا غضب كيف تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه» فاستعار الوقيد لاشتداد الغضب وتراكمه، ومنه قوله #: «ما ذئبان ضاريان في زريبة أحدكم بأسرع من الحسد في حسنات المؤمن» فاستعار الذئبين في إفساد الغنم بضراوتهما لما يحصل من عقوبة الحسد في إحباط الحسنات المستحقة على الأعمال الصالحة، يريد أن إسراعه في الإحباط بمنزلة إسراع هذين الذئبين في إهلاك الغنم وقتلها. ومن بديع الاستعارة وغريبها قوله ÷ «ما جرع عبد قط جرعتين أعظم عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم أو جرعة


(١) حديث حسن رواه ابن حيان والبزار وغيرهما وانظر صحيح الجامع (١٢١١).