المسلك الثالث
  وبلّده، فإنه يكون لا محالة لغيره أقطع، وعلى تحيرهم وإدهاشهم أقدر، فهكذا حال القرآن إذ كان فائقا لكلام رسول الله وكلام أمير المؤمنين، فهو لغيرهما بذلك أحق لعلو الرتبة، وأعظم استبدادا بالفصاحة وأحوى لأسرار البلاغة.
المسلك الثالث
  هو أنه ÷ لما أيده الله بالقرآن وجعله له معجزة باقية على وجه الدهر لا تنقضى عجائبه، ولا تخلق على كثرة الترداد جدّته. وقد عرضه على من كان في وقته من أهل الفصاحة من قريش وغيرهم، فحيّر ألبابهم، وأدهش أفهامهم، وخرق قراطيس أسماعهم، وما ذاك إلا لما تحققوا وعرفوا من بلوغه الغاية في فصاحته، وإنافته على كل كلام في جزالته وبلاغته، حتى قال الوليد بن المغيرة فيه ما قال حين جاء إلى الرسول ÷ وقال له أتل على يا محمد ما أنزل إليك، فأسرع الرسول ÷ إلى ذلك طمعا في الانقياد، فقرأ الرسول ÷ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ١ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ٢ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ} إلى آخر حم السجدة، فقال إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، فما تيسر منهم إنسان، ولا فاه لأحد منهم لسان، إلى مماثلة شيء من أساليبه، ولا إلى الإتيان بأقصر سورة من سوره، وهذا يدلّك على أمرين، أحدهما اختصاصه بما لا يقدرون عليه ولهذا أظهروا الإعجاب من نفوسهم، وخرجوا بالاستطراف من ألسنتهم، وثانيهما علمهم بالعجز واعترافهم بالقصور، فهذا ما أردنا ذكره من الدلالة على كونه بالغا أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة من جهة الإجمال، والله تعالى أعلم بالصواب.