القسم الثاني من [التجنيس ويقال له الناقص]، والمشبه،
  دوّان ودبّاج، فإذا تكرر الحرف الواحد في الكلام المنظوم والمنثور، كان ثقيلا على الأنفس نازلا عن الفصاحة، معيبا في البلاغة، فمن ذلك ما قاله بعض الشعراء:
  وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر(١)
  فهذه القافات والراءات من الأحرف قد تكررت وتقاربت فأكسبت الكلام ثقلا وركة تبعد به عن الفصاحة وتنأى لأجله عن البلاغة، وقد قيل إن هذا البيت من شعر الجن، ولهذا قيل إن أحدا لا يكاد ينشده ثلاث دفعات إلا عثر لسانه، وفي هذا دلالة على بعده عن السلاسة وقربه من الغثاثة، وهكذا ورد في الحريريات وعد من ركيكها قوله:
  وازورّ من كان له زائرا ... وعاف عافى العرف عرفانه
  فلما تكررت الراء والفاء فيه، كان محتاجا إلى بيكار يضعه الناطق به في شدقه حتى يديره على تأليفه الذي خرج عن حد الاعتدال، وهكذا ما فعله في رسالتيه اللتين جعل إحداهما على حرف السين، والأخرى على حرف الشين، فنالهما الثقل ومستهما البرودة من أجل ذلك، ويحكى عن بعض الوعاظ أنه قال في كلام له أورده: حتى جنأت وجنات الحبيب، فصاح رجل من الحلقة وماد وغشى عليه، فقيل له ما حدث عليك فقال سمعت جيما في جيم في جيم فصحت، وفي هذا دلالة على أنه يجب على البلغاء تجنبه والإعراض عنه.
الضرب الثاني في بيان المعاظلة في الألفاظ المفردة
  وهذا يخالف ما سبقه لأن الأول معاظلة في حروف مفردة كما مر بيانه، وهذه معاظلة في الكلم المفردة كالأدوات نحو من، وإلى، وعن، وعلى، وما شاكلها من أحرف المعاني، فإذا وقعت في الكلام وكان السبك بها تاما جاريا على جهة الانتظام فهو حسن، ومتى جاءت متقاربة أفادت التنافر والثقل على اللسان وكان ذلك مجانبا لجيد البلاغة وملح الكلام ورشيقه، ومثاله قول المتنبي:
  وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد(٢)
(١) البيت أنشده الجاحظ، وفي الإيضاح ص ٦.
(٢) انظر الإيضاح ص ٨، وشرح التبيان ١/ ١٨٧، التبيان للطيبي ٢/ ٥٢٦.