الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

القسم الثالث في بيان الإيجاز من غير حذف فيه

صفحة 68 - الجزء 2

  الفصاحة. ومن الإيجاز بالتقدير ما قاله علي بن جبلة:

  وما لامرئ حاولته منك مهرب ... ولو حملته في السماء المطالع

  بلى هارب لا يهتدى لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع

  ومن ذلك ما قاله النابغة الذبياني⁣(⁣١):

  فإنك كالليل الذي هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

  ومن ذلك ما قاله الأعشى في اعتذاره إلى أوس بن لأم لما هجاه:

  وإني على ما كان منى لنادم ... وإني إلى أوس بن لأم لتائب

  وإني إلى أوس ليقبل عذرتى ... ويصفح عنى ما جنيت لراغب

  فهب لي حياتي والحياة لقائم ... بسرك منها خير ما أنت واهب

  سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ... كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب

  ولقد أتى الأعشى في شعره هذا بالعجب العجاب وحير فيه الأفئدة وسحر الألباب، لما ضمنه فيه من رقة الألفاظ، التي تولّع بها كلّ ذكى حفّاظ.

الضرب الثاني في بيان [الإيجاز بالقصر]،

  وهو الذي تزيد فيه المعاني على الألفاظ وتفوق، وكتاب الله تعالى مملوء منه، ولنورد فيه أمثلة خمسة كما فعلنا بالضرب الأول بمعونة الله تعالى.

  «المثال الأول» قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ١٩٩}⁣[الأعراف: ١٩٩] فقد جمع في هذه الآية جميع مكارم الأخلاق؛ لأن في العفو الصفح عمن أساء، والرفق في كل الأمور، والمسامحة والإغضاء، وفي قوله {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام، ومنع اللسان عن الكذب والغيبة، وغض الطرف عن كل محرم، وغير ذلك، وفي الإعراض عن الجهال، والصبر والحلم، وكظم الغيظ. فهذه الألفاظ وإن قلّت فقد أنافت معانيها على الغاية، ولم تقف على حد ونهاية، وهذا النوع هو أعلى طبقات الفصاحة مكانا، وأعوزها إمكانا. ومن هذا قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ}⁣[البقرة: ١٧٩] فانظر إلى هذه اللفظة الجميلة كم يندرج تحتها من المعاني التي لا يمكن حصرها، ولا ينتهى أحد إلى


(١) انظر الإيضاح / ١٧٧ بتحقيقنا، والبيت أورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات ص ١٦٦ وهو للنابغة في النعمان، وفي الكلام إشارة إلى تشبيه النعمان بالسيل في اندفاعه وقوته، بعد تشبيهه بالليل، تشبيها يلاحظ في وجهه الرهبة والخوف مع ضرورة اللحاق والإدراك، والبيت من إحدى الاعتذاريات التي نبغ فيها النابغة الذبياني، أبو أمامة زياد بن معاوية.