الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

القسم الثاني في بيان ما يرد في الجمل المتعددة،

صفحة 157 - الجزء 2

الفصل الرابع في [الامتحان]

  اعلم أن من المعاني ما يكون متوسطا فيما أتى به من أجله، فيكون اقتصادا، ومنها ما يكون قاصرا عن الغرض فيقال له تفريط، ومنها ما يكون زائدا عن الحد فيكون إفراطا، فهذا الفصل يسمى الامتحان لما كان فيه الإفادة لمعرفة هذه الأمور الثلاثة، فإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه الأمور الثلاثة، أعنى الاقتصاد، والتفريط، والإفراط، لها مدخل في كل شيء من العلوم والصناعات، والأخلاق والطباع، ولا بدّ من بيان معانيها في الأوضاع اللغوية، ثم نظهر نقلها إلى المعاني.

  فأما الاقتصاد فاشتقاقه من القصد وهو العدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين، قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}⁣[لقمان: ٣٢] فوسطه بين قوله: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ}⁣[فاطر: ٣٢] فظلم النفس، والسبق بالخيرات هما طرفان، والاقتصاد أوسطهما، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ٦٧}⁣[الفرقان: ٦٧] فالإسراف، والإقتار طرفان، والقوام، هو الوسط والاقتصاد، لأن الوسط لا بدّ له من طرفين، ولهذا قال #: خير الأمور أوساطها، ونهى رسول اللّه ÷ عن لباس الشهرتين، فلا بد هناك من وسط مأمور به، وهو لباس أهل الصلاح، فلا يكون لباس أهل الفخر والخيلاء ولا لباس أهل الإدقاع والفقر والمسكنة، ولهذا قال بعضهم:

  عليك بالقصد في كل الأمور تفز ... إن التخلق يأتي دونه الخلق

  والوسط مستحسن عقلا، وشرعا، وعرفا، وأما التفريط فهو التقصير والتضييع، ولهذا قال تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}⁣[الأنعام: ٣٨] أي ما أهملنا من إيداعه المصالح الدينية، ولا ضيعناها منه، وأما الإفراط، فهو الإسراف في الشئ والتجاوز للحد فيه يقال أفرط في الشئ، إذا تجاوز الحد، فصار التفريط والإفراط هما الطرفان الضدان، والاقتصاد هو الوسط في الاعتدال، فهذه هي المعاني التي تفيدها هذه الألفاظ من جهة اللغة، فإذا عرفتها فنقول قد نقلت هذه المعاني الثلاثة إلى أمور مصطلح عليها في علوم البيان، نوضحها ونجعلها على مراتب ثلاث: