الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

التنبيه الرابع في بيان مراتب التشبيهات في الظهور والخفاء والقرب والبعد والزيادة والنقصان وغير ذلك من أحوالها التي تعرض لها

صفحة 146 - الجزء 1

  كأنها فضة قد مسها ذهب

  لما كان الأول غير واقع، لأن البساط الأزرق عليه درر منثورة لا يكاد يوجد، بخلاف الفضة المموهة بالذهب، فإنها توجد كثيرا، فأما التشبيهات الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنها كلها قريبة، وما ذلك إلا لأنها أدخل في التحقيق، وأقرب إلى التيقن مما لا يكاد يقع، فلهذا كانت مختصة بهما كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}⁣[النور: ٤٠] وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمارِ}⁣[الجمعة: ٥] وقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}⁣[الأعراف: ١٧٦] إلى غير ذلك من الأمور الممكنة الوقوع. ومثال الواضح من التشبيه ما قاله علي بن جبلة في وصف الخمر:

  ترى فوقها نمشا للمزاج ... تقارب لا تتصلن اتصالا

  كوجه العروس إذا خططت ... على كل ناحية منه خالا

  ومن أوضحه قول مسلم بن الوليد يصف رجلا بالشجاعة:

  يلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلمودا بجلمود

  فهذا وأمثاله من الأمور الواضحة في المقصود منها في التشبيه، وهكذا جميع التشبيهات في القرآن العظيم، فإنها واضحة جليلة، ومثال التشبيهات الخفية، ونريد بخفائها أن الأمور المحسوسة الظاهرة مستمدة من الأمور الخفية في المعاني وهذا كقول بعض الشعراء:

  وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع

  فشبه النجوم في ظلمة الظلام مع نورها بالسنن الواضحة التي هي كالأنوار توسط بينها بدع، كسواد الليل في ظلمتها، فالسنة في هداها كالنور، والبدعة في جهلها بمنزلة الظلمة، ومن هذا قول بعضهم:

  كأن انصياع البدر من تحت غيمه ... نجاء من البأساء بعد وقوع

  فشبه المحسوس بالمعقول، مثل البدر الذي ينحسر عنه الظلام، بالمتخلص من البأساء بعد وقوعها عليه، وما ذاك إلا لأن هذه المعاني وضحت وضوحا وقربت من النفوس قربا فألحقت بالأمور المحسوسة في وضوحها وتحققها، ومن الأمثلة ما حكاه الله تعالى عن مستحلى الربا حيث قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا}⁣[البقرة: ٢٧٥] وكان القياس في قولهم:

  إنما الربا مثل البيع، في تحليله إغراقا منهم في المبالغة، وذهابا إلى أن الربا في باب الحل أدخل من البيع وأقوى حالا، وهذا من أنواع التشبيه يلقب بالمعكوس، ولهذا يقال: صبح كغرة الفرس، ويقال في عكسه أيضا غرة كالصبح، وسيأتي تقريره بمعونة الله تعالى.