الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

البحث الرابع في أحكام الاستعارة

صفحة 162 - الجزء 1

  درجة في ظهور الأداة وإضمارها، وفي حصول المشبه به وعدم حصوله فمنها ما هو ظاهر متيسر تقديره على سهولة، ومنها ما يتعذر المشبه به، وإنما يتلطف في تقديره بنوع من الاحتيال والتلطف، ومنها ما هو متوسط بين الدرجتين، فهذه درج ثلاث بالإضافة إلى تقدير المشبه في الإضمار والإظهار نفصلها بمعونة الله ولطفه.

  الدرجة الأولى: ما يكون المشبه به ظاهر التقدير لا يحتاج في تقديره إلى تكلف، بل يتيسر تقديره على قرب، وهذا كقولنا: زيد الأسد، فإن التقدير فيه زيد كالأسد على سهولة من غير إضمار ولا خروج عن قاعدة، وهكذا قوله ÷ «البدعة شرك الشّرك» لأن التقدير البدعة كالشرك للشرك، يريد مصايد له وأحبولات، ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه في صفة التقوى «هي دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم» وقال في الإسلام:

  «هو ينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت نيرانها، ومنار اقتدى به سفاره، ومناهل روى بها واردها» وقال في القرآن «هو نور لا تطفأ مصابيحه، وشعاع لا يخبو توقده، وبحر لا يدرك قعره» فهذه الاستعارات كلها من التشبيه المضمر الأداة فيها أداة التشبيه على أسهل حال، وأقرب منال، كما مثلناه في الصورة الأولى.

  الدرجة الثانية في غاية البعد من الأولى وهي الصورة الرابعة والخامسة وهي أدق الصور في تقدير التشبيه فيها، فلا يتفطن للتشبيه فيهما إلا باستخراج وتأمل وفكر بالغ، يدرك بنوع من التلطف والاحتيال كما سنوضحه، وما ذاك إلا لأجل توغلها في حسن الاستعارة وإغراقها فيها، وهذا يدلك على مصداق ما قاله أهل البراعة من أهل هذه الصناعة، من أن التشبيه كلما ازداد خفاء ازدادت الاستعارة حسنا ورشاقة، يشيرون به إلى ما ذكرناه، ومثاله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ}⁣[الحشر: ٩] فهذه الاستعارة من أعجب الاستعارات وأدقها، ووجه دخولها في الحسن، هو أنهم لتمكنهم في الإيمان وإشراب قلوبهم محبته، والتصاقه بلحومهم ودمائهم، صار كالمباءة لهم والمسكن الذي يتوطنونه، ومع هذا يصعب تقدير التشبيه، ونهاية الأمر فيه أن يقال: إنه صار كالمباءة، وعند تقدير ما ذكرناه من التشبيه يضعف أمر الاستعارة، وينزل قدرها، ويرك أمرها وحالها.

  وأما بيت الفرزدق الذي أنشدناه وهو قوله (ما ضر تغلب وائل) فهذا البيت من الأبيات التي علا قدرها في البلاغة وأقر لها الناس بالحسن في الاستعارة، وما ذاك إلا لإغراقها في الاستعارة والدخول فيها، فتقدير التشبيه فيها يخرجها عن مكانها الرفيع، ومحلها المنيع،