التقسيم الأولى
  الحكم الثاني: الحقيقة في وضع الألفاظ إنما هو للدلالة على المعاني الذهنية دون الموجودات الخارجية. والبرهان على ما قلناه هو أنا إذا رأينا شبحا من بعيد وظننّاه حجرا، سمّيناه بهذا الاسم، فإذا دنونا منه وظننّا كونه شجرا، فإنا نسميه بذلك فإذا ازداد التحقيق بكونه طائرا، سميناه بذلك، فإذا حصل التحقيق بكونه رجلا سميناه به. فلا تزال الألقاب تختلف عليه باعتبار ما يفهم منه من الصور الذهنية. فدلّ ذلك على أن إطلاق الألفاظ إنما يكون باعتبار ما يحصل في الذهن. ولهذا فإنه يختلف باختلافه.
  الحكم الثالث: الألفاظ المشهورة من جهة اللغة المتداولة بين الخاصة والعامة، لا يجوز أن تكون موضوعة بمعنى خفىّ لا يعرفه إلّا الخواص، ولا يصلح أن تكون موضوعة بإزاء المعاني الدقيقة التي لا يفهمها إلا الأذكياء. ومثال ذلك هو أن لفظ الحركة، والقدرة، والعلم، إنما تكون موضوعة على ما هو السابق إلى الأفهام عند العامة، من أن الحركة هي نفس التحرك، والقدرة هي نفس القادرية، والعلم هو نفس العالمية. فلا يجوز أن يكون اللفظ موضوعا إلّا على ما ذكرناه، ولا يجوز أن تكون موضوعة على المعاني الدقيقة التي لا تخطر ببال أحد من أهل اللغة كما يزعمه من أثبت العلة والمعلول من المتكلمين، قال: إن الحركة موضوعة على معنى توجب كون الذات متحركة، وهكذا القول في القدرة والعلم، فإنه لو صح ما قالوه، لما عرفه إلّا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة. وإذا كان الأمر كما قلناه فلفظ الحركة متداولة بين الجمهور من أهل اللغة، فلا يجوز وضعه إلّا على المفهوم عندهم عند إطلاقه دون ما يقوله المتكلمون.
الضرب الثاني: [دلالة التضمن]
  وهذا نحو دلالة الفرس والإنسان، والأسد على معانيها التي هي متضمنة لها كالجمحية والحيوانية والإنسانية، فإن هذه المعاني كلها تدل عليها هذه الألفاظ عند الإطلاق، لأنها متضمنة لها من حيث إن هذه الحقائق لا تتعقّل من دون هذه الصفات. وهي أصل في معقول هذه الحقائق متضمنة لها، فدلالتها عليها من جهة تضمّنها إياها.
الضرب الثالث: [دلالة الالتزام]
  وهذا نحو دلالة لفظ الإنسان والفرس على كونها متحركة، وعلى كونها شاغلة للجهة، وغير ذلك من الأمور اللازمة. فهذه مجامع دلالة اللفظ على ما يدل عليه لا تخرج عن هذه الأمور الثلاثة، المطابقة، والتضمن، والالتزام، كما أوضحناه. ولنشر هاهنا إلى تنبيهات ثلاثة: