الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

البحث الثاني في ذكر ما يتعلق ب [الأحرف الجارة]

صفحة 31 - الجزء 2

  باختلاف معانيها، وتحتها أسرار ولطائف، فالباء، للإلصاق، وللوعاء ولبيان الجنس إلى غير ذلك من المعاني، ولنذكر من ذلك ثلاث آيات من أجل التنبيه:

  الآية الأولى

  قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٢٤}⁣[سبأ: ٢٤] فانظر إلى براعة هذا المعنى المقصود وجزالة هذا الانتظام بمخالفة موقعى هذين الحرفين، فإنه إنما خولف بينهما في التلبس بالحق والباطل، والدخول فيهما، وذلك من جهة أن صاحب الحق كأنه لمزيد قوة أمره، وظهور حجته، وفرط استظهاره راكب لجواد يصرفه كيف شاء، ويركضه حيث أراد، فلأجل هذا جعل ما يختص به معدى بحرف «على» الدال على الاستعلاء، بخلاف صاحب الباطل فإنه لفشله، وفرط قلقه، وضعف حاله، كأنه ينغمس في ظلام، وموضع سافل لا يدرى أين يتوجه ولا كيف يفعل، فلهذا كان الفعل المتعلق بصاحبه معدى بحرف الوعاء، إشارة إلى ما ذكرناه، ويؤيد هذا ما ذكره الله تعالى في سورة يوسف حيث قال: {قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ٩٥}⁣[يوسف: ٩٥].

  الآية الثانية

  قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}⁣[التوبة: ٦٠] فهذه أصناف ثمانية، جعل الله الصدقات مصروفة فيهم لكونهم أهلا لها ومستحقين لصرفها، لكن الله تعالى خص المصارف الأربعة الأول باللام، دلالة على الملك والأهلية للاستحقاق، وعدل عن اللام إلى حرف الوعاء في الأصناف الأربعة الأخر، وما ذاك إلا للإيذان بأن أقدامهم أرسخ في الاستحقاق للصداقة، وأعظم حاجة في الافتقار من حيث كانت دالة على الوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشئ في الوعاء وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من الخلاص عن الرق والدّين اللذين يشتملان على النقص، وشغل القلب، بالعبودية، والغرم، ثم تكرير الحرف في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قرينة مرجحة له على الرقاب والغارمين، وكان سياق الكلام يقتضى أن يقال: وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل. فلما جيء ب «في» مرة ثانية وفصل بها سبيل