الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها
  ترى، ومن التقديم في الرتبة قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم: ١١] فإن الهماز هو المغتاب، وهو لا يفتقر إلى مشى، بخلاف النميمة فإنها تفتقر إلى نقل الحديث من شخص إلى شخص، وما كان مجردا فهو سابق في الرتبة على ما كان له تعلقات بغيره، وقوله تعالى {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ}[القلم: ١٢] إنما قدم على قوله: {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم: ١٢] لما كان المنع مقصورا على نفسه والعدوان له تعلق بغيره، وهكذا قوله {عُتُلٍّ} فإنه الفظّ الغليظ، والزنيم له تعلق بالغير من جهة أنه الدعي وهو المنسوب إلى غير أبيه فله تعلق بالغير.
  ومن التقدم في الشرف قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}[المائدة: ٦] وقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}[المائدة: ٦] فإن الوجه أشرف من اليد، والرأس أفضل من الرجل، ومنه قوله {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ}[النساء: ٦٩] فإن النبي أشرف من الصديق وقوله: {وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ}[النساء: ٦٩] فإن الشهداء أعلى درجة من غيرهم من أهل الصلاح، ومن هذا قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ}[الملك: ٢٣] وقوله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ}[الإسراء: ٣٦] وقوله: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة: ١] وقوله تعالى: {فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ}[الأحقاف: ٢٦] فأما تقديم الإنس على الجن فهو الأكثر الوارد في القرآن من أجل شرفهم على الجن كقوله تعالى {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن: ٧٤] وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن: ٣٩] وقوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً}[الجن: ٥] وغير ذلك، فأما قوله: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}[الرحمن: ٣٣] فإنما ورد مقدّما هاهنا على الإنس، من أجل اشتمالهم على الملائكة كما قال {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً}[الصافات: ١٥٨] حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكما قال الأرحبي(١):
  وسخّر من جنّ الملائك سبعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
  فحيث كان متناولا للملائكة قدموا لفضلهم، وحيث كان الخطاب مقصورا على الثقلين قدم الإنس لفضلهم، والأجود أن يقال: إنما قدم الجن هاهنا لما كان المقام مقام خطاب بامتثال الأوامر في العبادة في قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: ٥٦] فقدمهم لما كانت المخالفة منهم في ترك العبادة أكثر من
(١) انظر البيت في لسان العرب (جنن) وهو منسوب للأعشى؛ وليس في ديوانه.