الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

البحث الثاني في ذكر ما يتعلق ب [الأحرف الجارة]

صفحة 50 - الجزء 2

  شرطا معتبرا ولا يعول عليه، ولو جاز ترك الإيجاز البليغ لأجل إفهام العوام لجاز ترك الألفاظ الفصيحة والإتيان في الكلام بالألفاظ العامية المألوفة عندهم، فكما أن هذا ليس شرطا فهكذا ما ذكروه ولقد صدق من قال في هذا المعنى:

  على نحت القوافي من مقاطعها ... وما علىّ إذا لم تفهم البقر

  وإنما الذي يجب مراعاته ويتوجه إليه قصده، هو الإتيان بالألفاظ الوجيزة الفصيحة، والتجنب للألفاظ الوحشية مع الوفاء في ذلك بالإبانة والإفصاح، وسواء فهم العوام أم لم يفهموا، فإنه لا عبرة بهم ولا اعتداد بأحوالهم ولا يضر الكلام الفصيح عدم فهمهم لمعناه، ولهذا فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون نقصا في وضوحه وجلائه، وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لم يدركه، ولهذا فإن الله تعالى ما خاطب بفهم معاني كتابه الكريم إلا الأذكياء، وأعرض عن البله من العوام وشبّههم في العمى والبلادة بالأنعام حيث قال: {أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ١٧٩}⁣[الأعراف: ١٧٩] والتطويل نقيض الإيجاز، وهو مخالف لجانب البلاغة، وبمعزل عن مقاصد الفصاحة، وحاصله أن تورد ألفاظا في الكلام إذا أسقطت بقي على حاله في الإفادة، وأكثر ما يكون في الأشعار فإنها تورد من أجل الاستقامة في الوزن، كلفظ «لعمري» في قول أبى تمام:

  أقرّوا لعمري بحكم السيوف ... وكانت أحقّ بفصل القضا

  ونحو لفظ «الغداة» في قوله أيضا⁣(⁣١):

  إذا أنا لم ألم عثرات دهر ... بليت به الغداة فمن ألوم

  فقوله: لعمري، والغداة، فصلان زائدان لا حاجة إليهما إلا من أجل استقامة الوزن، وصحته، وكلفظ «يا صاحبي» في قول البحتري

  ما أحسن الأيام إلّا أنّها ... يا صاحبي إذا مضت لم ترجع

  فقوله: «يا صاحبي» لغو لا فائدة تحته سوى ما ذكرناه من تحسين لفظ البيت وتجويده، وهكذا القول فيما أشبهه، وهو خلاف ما عليه كلام البلغاء فإن من شأن الفصاحة أن تكون الألفاظ مطابقة لمعانيها المقصودة لها من غير زيادة فيها ولا نقصان، وإذ قد فرغنا عما نريده من ذكر ديباجة الإيجاز فلنرجع إلى مقاصده.


(١) البيت لأبى تمام في ديوانه / ٤٢٤، وقد قاله ضمن قصيدة يصف فيها مطلبه ويشكو الدهر بنيسابور، ورواية «أصبت به».