الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها

صفحة 54 - الجزء 2

  والتقدير فيه أنه يتجنب الآثام فإذا تجنبها فقد أتى بحسنة ثم يخاف أن لا تكون تلك الحسنة مقبولة، فكأنما حسناته آثام. فلم يخف الحسنة لكونها حسنة، وإنما خاف ما يتصل بها من الرد فكأنها مخوفة كما تخاف الآثام، وهذا يأتي على طبق الآية ووفقها، وهذا من بديع الأسرار والمعاني التي فاق بها على نظرائه أبو تمام وابن هانئ، وحكى عن ابن الأثير أنه سئل عن هذا البيت، وقيل كيف تكون حسناته آثاما، وكيف ينطبق صدر البيت على عجزه فتحير فيه ثم فكر، ونزّله على ما ذكرناه.

  الضرب الرابع: ما ليس من قبيل الاستئناف، ولا من جهة التسبب، ولا من الحذف على شريطة التفسير، وهذا في القرآن كثير الورود، وخاصة في سورة يوسف، فإنها مشتملة على الإيجاز البالغ بالحذف وغيره، ومنها قوله تعالى: {قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ}⁣[يوسف: ٤٧] إلى قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ٤٩}⁣[يوسف: ٤٩] ثم قال: {وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي}⁣[يوسف: ٥٠] فإنه قد حذف من هذا الكلام جملة مفيدة، تقديرها فرجع الرسول إليهم فأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها، أو فصدقوه عليها، وقال الملك ائتوني به، وفي قصة. بلقيس. في قوله: {اذْهَبْ بِكِتابِي هذا}⁣[النمل: ٢٨] إلى قوله: {فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ ٢٨}⁣[النمل: ٢٨] ثم قال بعد ذلك: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ٢٩}⁣[النمل: ٢٩] وفي هذا حذف، تقديره فأخذ الكتاب فذهب به، فلما ألقاه إلى بلقيس وقرأته، قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلى كتاب كريم. ومما ورد على هذا المعنى قول أبى الطيب المتنبي⁣(⁣١):

  لا أبغض العيس لكني وقيت بها ... قلبي من الهم أو جسمي من السقم

  وهذا البيت فيه محذوف، تقديره لا أبغض العيس لما يلحقني بسببها من ألم السفر ومشقته، ولكن وقيت به كذا وكذا، وهو من الشعر الذي يحير الأفهام عجبا، ويهز الأعطاف طربا، ومن الحذف قول القائل «الله أكبر» لأن التقدير الله أكبر من كل شيء، وعلى هذا ورد قول البحتري:

  الله أعطاك المحبّة في الورى ... وحباك بالفضل الذي لا ينكر

  ولأنت أملأ في العيون لديهم ... وأجلّ قدرا في الصدور وأكبر

  فالتقدير فيه أملأ في العيون من غيرك، وأجلّ، وأكبر ممن سواك، والحذف في الجمل واسع، وفيما ذكرناه كفاية في التنبيه على غيره.


(١) البيت للمتنبى في ديوانه ٢/ ٢٥٩، ورواية الديوان «قلبي من الحزن».