الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

القسم الثالث في بيان الإيجاز من غير حذف فيه

صفحة 75 - الجزء 2

  أطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة من عنقه، فقوله «أطعن»، «وأطأ»، على صيغة الفعل المضارع إنما جرى على قصد المبالغة.

الوجه الثاني: [الانتقال من المضارع إلى الماضي]،

  وهذا كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}⁣[النمل: ٨٧] لأن إيثار الماضي والعدول إليه دال على مبالغة في الثبوت والاستقرار، ومن هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ}⁣[الكهف: ٤٧] ولم يقل: «ونحشرهم». وقد يعدل إلى لفظ اسم المفعول عن الفعل الماضي، إجراء له مجرى الفعل المضارع، ومثاله قوله تعالى: {ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ١٠٣}⁣[هود: ١٠٣] لأن التقدير فيه، «ذلك يوم يجمع فيه الناس»، ويؤيده قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}⁣[التغابن: ٩].

  ومما جاء في الالتفاتات من الأبيات الشعرية قول جرير⁣(⁣١):

  متى كان الخيام بذى طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام

  فهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب. وكقول امرئ القيس⁣(⁣٢):

  تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلّى ولم ترقد

  وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد

  وذلك من نبأ جاءني ... وخبّرته عن أبي الأسود

  الأبيات، فتحصل من مجموع ما ذكرناه أن أهل البلاغة من العرب دأبهم الالتفات، ويستكثرون منه، وما ذاك إلا لأنهم يرون الانتقال من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القبول عند السامع وأكثر لنشاطه، وأعظم في إصغائه، وإذا كانوا يستحسنون قرى الأضياف وهو دأبهم وعليه هجيرهم وعادتهم فيخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، أفلا يستحسنون نشاط الأفئدة وملاءمة القلوب بالمخالفة بين أسلوب. وأسلوب، بل يكون هذا أجدر فإن اقتدارهم على مخالفة أساليب الكلام أكثر من اقتدارهم على مخالفة الأطعمة؛ لأن البلاغة في الكلام عليهم أيسر، وهم عليها أمكن وأقدر، فهذا ما أردناه من إيراد ما يتعلق بالالتفات من الخطاب.


(١) البيت لجرير في ديوانه ص ٣٨٥، والمصباح ص ٣٣.

(٢) انظر الأبيات في المصباح ص ٣٥، والإيضاح ص ٧٩ بتحقيقنا، وهي لامرئ القيس في ديوانه / ٣٣٤، والمفتاح ص ١٠٧، وخزانة الأدب / ٦٠، ونهاية الأرب ٧/ ١١٧، والتبيان للطيبي ٢/ ٣٤٩ الإثمد: موضع، والخلي:

الخالي من الهموم، وقوله «وبات وباتت له ليلة» الأولى تامة، والثانية يجوز أن تكون ناقصة وأن تكون تامة، ويجوز أنه أراد «وبات في ليلة» فنسب الفعل إلى الليلة مجازا، والعائر: الذي في عينه قذى أو وجع، وأبو الأسود: كنية أبيه حجر ملك بنى أسد، والخبر الذي خبره عنه خبر قتلهم له