الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها
  الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}[النور: ٦٢] فظاهر هذه الآية التكرير، وليس الأمر كذلك فإن الحصر وإن كان شاملا لهما، لكنه مختلف، فالآية الأولى إنما وردت في حصر الإيمان، وأنه لا إيمان حقيقة إلا الإيمان بالله ورسوله، وما عداهما لا يعد من الإيمان، ولا يكون داخلا في ماهيته، وتعريضا بحال من أنكر التوحيد والنبوة، فإنه غير داخل في هذه الصفة بحال، والآية الثانية فإنما وردت على جهة الحصر في المستأذنين، كأنه قال صفة الاستئذان مقصورة على كل من آمن بالله ورسوله، فلا يتأخر إلا بأمر من جهتك، ولا يقدم ولا يحجم إلا عن رأيك، لاطمئنان نفسه بالإيمان، ورسوخ قدمه فيه، فهذا هو المستأذن حقيقة، فأما من كان غير مؤمن بالله ولا معرج على التصديق بك، فليس من استئذانك في ورد ولا صدر، فقد ظهر بما ذكرناه تغاير الآيتين بما أبرزناه من معناهما، فهكذا تفعل في كل ما ورد عليك من الآي القرآنية، فإن التكرير فيه كثير، ورب كلام يكون الإطناب فيه أبلغ من الإيجاز، وتصير البساطة له كالعلم والطراز، ولولا خشية الإطالة لأوردنا جميع التكريرات كلها، وأظهرنا تغايرها، وفيما أشرنا إليه كفاية لما نريده من ذلك، ومن التكرير الفائق ما ورد في السنة الشريفة كقوله ÷ في وصف يوسف الصديق # «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم» يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، يعنى أنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، فقد تنوسخ من الأصلاب الشريفة إلى الأرحام الطاهرة، فهذا تكرير بالغ دال على نهاية الشرف، وإعظام المنزلة، ورفع الرتبة عند الله، ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه «اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي وصغّروا عظيم قدرى، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ثم قالوا ألا في الحق أن نأخذه، وفي الحق أن نمنعه» وإنما كرر قوله في الحق، مبالغة في التوجّع، وإعظاما في التهكّم بهم، حيث اعتقدوا أن منعه هو الحق بزعمهم، فهذا من التكرير الذي قد بلغ في الفصاحة أعلاها، وأصعد في ذروتها وحل أقصاها كما ترى، ومن الأبيات الشعرية ما يليق ذكره هاهنا، فمن ذلك قول المتنبي(١):
  العارض الهتن بن العارض الهتن ب ... ن العارض الهتن بن العارض الهتن
  فهذا من باب التكرير، ثم من الناس من صوبه في تكريره هذا. ومنهم من قال إنه قد
(١) البيت للمتنبى، وهو في ديوانه / ٢١٦، ضمن قصيدة له يمدح فيها أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب وهو يومئذ يتقلد القضاء بأنطاكية، وانظر أيضا شرح التبيان للعكبرى ٢/ ٤٦٤.