الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

الباب الثاني في ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها

صفحة 104 - الجزء 2

  بعضه فلا تناقض هناك، لاختلاف تعلّقهما بما يتعلقان به، وإنما تقع المناقضة إذا كان متعلقهما واحدا، وعلى هذا يحمل بيت أبى الطيب المتنبي⁣(⁣١):

  ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السّفن

  فالنفى واقع على «كل» المفيد للشمول، وعلى هذا يجوز أن يكون الإنسان مدركا بعض متمناه، فلا مناقضة فيه لما ذكرناه وهكذا قول من قال «ما كل رأى الفتى يدعو إلى الرشد» ومنه قول بعض الشعراء «ما كل ماشية بالرحل شملال» والشملال الناقة السريعة، وأراد أن بعض ما يمشى بالرحل ليس سريعا في سيره، ومنه قولهم «ما كل سوداء تمرة» يعنى أن بعض ما يكون أسود ليس تمرا، وليس منه الحديث النبوي حين سلّم على ثلاث من الظهر، فقال له ذو اليدين يا رسول اللّه أقصرت الصلاة أم نسيت، فقال # كل ذلك لم يكن، وأراد ما كان شيء من ذلك، فقال ذو اليدين تقريرا لما قد تحققه من الحال، بعض ذلك قد كان، فجواب الرسول ÷ على غير ظاهر الحال، وجواب ذي اليدين على ما تحققه من الأمر في التغيير، وغرضه أن بعضه قد كان وهو النسيان دون القصر، فلما كان حرف النفي غير متصدر على «كل» وهو «لم» جاء نفيا للفعل على جهة العموم كما ذكرته. التقرير الثاني أن يكون النفي واقعا على غير «كل» كقولك كل الأصحاب ما جاءني، وكل الرجال ما أكرمت، وكل القوم ما لقيت، فمتى كان الأمر كما قلناه كان نفيا للفعل متصلا بالكل، فيناقضه ما جاء على خلافه، فإذا قلت: كل الإخوان ما جاءني، وكل الرجال ما أكرمت، فإنه يناقضه، بل جاءني بعضهم؛ لأنك نفيت الفعل على جهة الإطلاق، فلأجل هذا ضادّه ما جاء على عكسه، ومنه قوله # لذي اليدين كل ذلك لم يكن، وقد قررناه من قبل، وقول أبى النجم⁣(⁣٢):

  قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... عليّ ذنبا كله لم أصنع

  فإنه أراد أنه لم يصنع شيئا منه، وإنما كان المعنى هكذا، لما كان النفي واقعا على الفعل،


(١) البيت من قصيدة للمتنبى مطلعها:

بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن

انظر البيت في التبيان ٢/ ٤٧٨، ودلائل الإعجاز / ٢٨٤، شرح المرشدى على عقود الجمان ١/ ٨٨.

(٢) هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله من بكر بن وائل من رجاز الإسلام الفحول المقدمين وفي الطبقة الأولى منهم، قال عنه أبو عمرو بن العلاء: كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج، توفى سنة ١٣٠ هـ، وانظر ترجمته في الأغانى ١٠/ ١٨٣، وانظر البيت في الإيضاح ص ٢٨ بتحقيقنا.