الباب الثالث في مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعاني المركبة
  وقتا دون وقت، ثم أردفه بتجديد الحمد في مستقبل الزمان وحاله، ولهذا وجه الأول بالاسم، والثاني بالفعل المضارع، ليدل بالأول على الثبوت والاستقرار، ويدل بالثاني على التجدد والحدوث، ثم عقب بذكر الاستعانة لما كان محتاجا إليها في كل فعل، وهي الألطاف الخفية من جهة الله تعالى؛ لأن اللطف من الله تعالى من أجله يسهل كل عسير، ويلين كل قاس، ثم أردفه بالاستعاذة بالله من شرور الأنفس، لما فيه من الضرر العظيم من أجل دعاء النفوس إلى كل شر، وهي مطبوعة على أنها أمارة بالسوء في كل أحوالها، ثم عقبه بالاستعاذة من السيئات، فإنها مبعدة عن الخير، داعية إلى الشر، فمن أجل هذه المناسبة جعل هذا الدعاء ديباجة لكل مطلوب لما اختص من الملاءمة بما يذكر بعده.
  ومن ذلك افتتاحه ÷ في الدعاء لأبى سلمة عند موته حيث قال: اللهم ارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين. فانظر إلى مناسبة هذا الافتتاح للحالة التي وقع فيها فافتتحه بذكر المهم الذي يفتقر إليه المدعو له في تلك الحال، من رفع الدرجة في الآخرة، ثم أردفه بذكر المهم الذي يؤثره المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده في الدنيا، ثم ختمه بالجمع بين الداعي والمدعو له، وهذا من الافتتاح البليغ الذي يعجز عن الإتيان بمثله كل بليغ، ومن أنس بالأحاديث النبوية وكان له مطالعة لها فإنه يجد فيها ما يكفى ويشفى.
  المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه
  وله # من الافتتاحات الرشيقة في خطبه، ومواعظه، وكتبه، ما يفوق على كل كلام فمن ذلك ما ذكره بعد تلاوته {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ١}[التكاثر: ١] فإن السبب في نزولها هو أن بنى عبد مناف من قريش وبنى سهم، أكثروا المماراة، أيهم أكثر عددا، وأعظم جمعا، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم: إن البغى أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، فنزلت الآية ذما لهم على ذلك فقال # في معنى ذلك: يا مراما ما أبعده، وزورا ما أغفله، وخطرا ما أفظعه، لقد استخلوا منهم أىّ مذكر، وتناوشوهم من مكان بعيد، بمصارع آبائهم يفخرون، أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟ فتأمل هذا الافتتاح، ما أجمعه للمقصود وأشد ملائمة لمراد الآية، مع الاختصار البالغ والإيجاز البديع الذي يزيد تفصيله من بعد في أثناء الخطبة.