الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

الباب الثالث في مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعاني المركبة

صفحة 171 - الجزء 2

  من الإرصاد التام، فإن كل كلمة من هذا الكلام مناسبة لما بعدها وملائمة له على أكمل نظام، وأعجب إتمام، فلو وقف على قوله «فإنك ممن استظهر به» لفهم ما بعدها ولو وقف على قوله «وأقمع به» لفهم ما وراءها، لأن الاستظهار تقوية واعتماد، والقمع هو الكف وهو ملائم للنخوة وهو العلو والكبر وهكذا قوله: {وَاخْفِضْ} فلو وقف عليه لفهم منه الجناح، لأنه يستعار كثيرا في لين الجانب كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ٨٨}⁣[الحجر: ٨٨] وهكذا القول في سائر ألفاظه، فإنها متلائمة متناسبة يدل بعضها على بعض.

  المثال الرابع ما ورد من كلام أهل البلاغة

  واعلم أن الشعراء المفلقين يفتخرون بما كان أول البيت دالا على آخره، وفي هذا يقول بعضهم:

  خذها إذا أنشدت في القوم من طرب ... صدورها عرفت منها قوافيها

  ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها

  وهذا هو الإرصاد كما قلناه، ومن جيد الإرصاد ما قاله البحتري:

  أحلّت دمى من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي

  فليس الذي حلّلته بمحلل ... وليس الذي حرّمته بحرام⁣(⁣١)

  فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثاني أن عجزه ما قاله البحتري، وقد جرت العادة عند إنشاد الشعر بانتهاب عجز البيت من لسان منشده قبل ذكره ويسبق إليه فينشده قبل إنشاده له لما كان المعنى مفهوما قبل ذكره، وهذا هو الذي نريده بالإرصاد ومن هذا قول بعض البلغاء:

  ولربما اعتصم الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار

  فهذا إذا قرع السامع صدر البيت ووقف على قوله «لا خير في يمنى» فإنه يتحقق أن لا بد من ذكر اليسار لا محالة، لما فيه من الملائمة له والمناسبة، ومن ذلك ما قاله زهير

  وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم⁣(⁣٢)

  فالأزمنة ثلاثة، الماضي، والحاضر، والمستقبل، فلما ذكر حكم الماضي، والحاضر،


(١) البيتان في المصباح ص ١٩٩، والصناعتين ص ٣٩٨، والإيضاح: ٣٠٨.

(٢) الإيضاح ص ١٧٥، ص ٣١٧.