القسم الثاني في بيان ما يرد في الجمل المتعددة،
  الله في قوله: {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ٢٠}[ص: ٢٠] «وأما مثاله» من السنة النبوية فقوله ÷: فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، بعد قوله ألا وإن المرء بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع به وبين أجل قد بقي لا يدرى ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، فانظر إلى هذا الاقتضاب ما أعجبه وألطفه يكاد يقرب من التخليص، ومن تتبع كلامه في الخطب والمواعظ فإنه يجد فيه من حسن الاقتضاب شيئا كثيرا. وأما مثاله من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فكقوله: ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وعبر وغير، فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه لا يخطئ سهامه، ولا يوسى جراحه، يرمى الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينفع، ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبنى ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى لا مالا حمل، ولا بناء نقل، ومن عبرها أنك ترى المغبوط مرحوما، والمرحوم مغبوطا، ليس ذلك إلا نعيما زلّ، وبؤسا نزل، ومن غيرها أن المرء يشرف على أمله، فيقتطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، ولا مؤمّل يترك، فسبحان الله ما أغرّ سرورها، وأظمأ ريّها، وأطحى فيئها، لا جاء يرد، ولا ماض يرتد، فسبحان الله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به، وأبعد الميت من الحي لانقطاعه منه، إنه ليس شر من الشر إلا عقابه، ولا خير من الخير إلا ثوابه، وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر، واعلموا أن كل ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص في الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر، إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، وما أحلّ لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، قد تكفّل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك ودخل اليقين، حتى كأن الذي قد ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأن الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم، فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمل ما يرجى من رجعة الرزق، ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم ترج اليوم رجعته، الرجاء مع الجائى واليأس مع الماضي، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.