الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز،

يحيى بن حمزة (المؤيد بالله) (المتوفى: 749 هـ)

القسم الثاني ما يتعلق بالمجاز على الخصوص

صفحة 44 - الجزء 1

  بينهما، وذلك يستدعى أمورا ثلاثة، وضعه الأصلي، ثم نقله إلى الفرع، ثم العلاقة التي بينهما، وأمّا الحقيقة فإنه يكفى فيها أمر واحد، وهو وضعها الأصليّ. والمعلوم أن كل ما كان توقّفه على شيء واحد فهو سابق على ما يكون توقّفه على ذلك الشئ مع أمرين آخرين.

  وثالثها: أنه لو لم يكن الأصل في الكلام هو الحقيقة لكان الأصل لا تخلو حاله إمّا أن يكون هو المجاز، ولا قائل به، فيجب القضاء بفساده، أو لا يكون واحد منهما هو الأصل، وهو باطل أيضا لأنه يلزم منه أن يكون كلام الشارع مترددا بين الحقيقة والمجاز، فيكون مجملا لا يمكن فهم المراد من ظاهر خطاباته وخلاف ذلك معلوم فلا حاجة إلى إبطاله. ولما كان ذلك فاسدا علمنا أن الأصل في الكلام هو الحقيقة، ويؤيّد ما ذكرناه ما روى عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدرى ما الفاطرة حتى اختصم إلى رجلان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبى، أي اخترعها. وحكى عن الأصمعي أنه قال: ما كنت أعرف الدّهاق حتى سمعت جارية بدويّة تقول: أسقى دهاقا أي ملانا. فلولا أن السابق من الإطلاق في الكلام هو الحقيقة، لما فهموا تلك المعاني، لجواز أن تكون مستعملة في غيرها على جهة المجاز، أو تكون مترددة بين الحقيقة والمجاز.

  الحكم الثاني

  اعلم أن الحقيقة إذا كانت هي الأصل في الكلام كما ذكرتم، فلأىّ شيء يكون التكلم بالمجاز، وما الباعث عليه فنقول: العدول عن الحقيقة إلى المجاز قد يكون لأمر يرجع إلى اللفظ وحده، وإلى المعنى وحده، وإليها جميعا، فهذه مقاصد ثلاثة:

  المقصد الأول ما يرجع إلى اللفظ على الخصوص

  وذلك من أوجه؛ أما أولا: فلما يرجع إلى جوهر اللفظ بأن يكون اللفظ الدالّ على المجاز أخفّ من الحقيقة على اللسان، إما لخفّة مفرداته أو لحسن تعديل تركيبه، أو لخفّة وزنها، أو لسلاسته، أو لغير ذلك من الأمور التي تقتضى السهولة فيعدل إلى المجاز لما ذكرناه.

  وأما ثانيا: فلأن اللفظة المجازيّة ربما كانت صالحة للقافية إذا كان الكلام شعرا منظوما، أو لأجل التشاكل في السجع إذا كان الكلام منثورا، والحقيقة غير صالحة في ذلك، أو لأجل أن الكلمة المجازيّة مألوفة الاستعمال، والحقيقة غريبة وحشيّة، فتكون المجازية أخفّ لما يحصل من الأنس المألوف ما ليس يحصل في غيره.