الباب الرابع من فن المقاصد في ذكر أنواع علم البديع وبيان أقسامه
  فهذه هي التفرقة بين التأويلين. ومن الأمثلة ما ورد عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وهذا كقوله #: «الحمد لله الفاشى حمده، الغالب جنده، المتعالى جده».
  وقوله: «الذي بعد فنأى، وقرب فدنا، وعلا بحوله، ودنا بطوله»، وقوله: «والسماوات ممسكات بيده مطويات بيمينه سبحانه وتعالى»، وقوله: «ناصيتي بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك». وقوله #: «فاتقوا الله الذي أنتم بنعمته ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته». ومن الأمثلة في كلام البلغاء قول بعضهم:
  رأيت عرابة الأوسىّ يسمو ... إلى العلياء منقطع القرين
  إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين(١)
  فليس الغرض باليمين هاهنا الجارحة على جهة الحقيقة، وإنما أراد ما يكون على جهة التخييل كما مرّ بيانه، وفي «الحريريات» قوله:
  يا قوم كم من عاتق عانس ... ممدوحة الأوصاف في الأنديه
  قتلتها لا أتّقى وارثا ... يطلب منى قودا أودية
  فقوله العانس، والقتل، يظن من جهة الظاهر أن غرضه البكر، وليس غرضه ذلك وإنما أراد الخمر، فالعانس هي التي يكثر مقامها مع أبويها، استعاره للخمر، والقتل هو إزهاق الروح، وأراد به هاهنا مزجها، ومنه قوله أيضا «لم يزل أهلي وبعلى يحلون الصدر ويمتطون الظهر ويولون اليد، فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح والأكباد، وانقلب ظهرا لبطن نبا الناظر، وجفا الحاجب، وصلد الزّند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب»، فليس المراد بهذه الأشياء هي الجوارح كما هو المفهوم من ظاهرها، وإنما أراد الجدب على جهة الخيال، ولم يرد حقيقتها كما مر في غيره من المواضع.
(١) البيتان للشماخ في ديوانه / ٣٣٦، والإيضاح ص ٢٠١.