الطريقة الثانية من جهة التفصيل
الطريقة الثانية من جهة التفصيل
  اعلم أنه لا مطمع لأحد من الخلق وإن عظم حاله في الإحاطة بجميع مزايا القرآن والاستيلاء على عجائبه، وما اختص به من دقائق المعاني وكنوز الأسرار وعلو مرتبته في الفصاحة، وكونه فائقا في البلاغة، ومباينته لكلام فصحاء العرب، وكل ذلك فيه دلالة على شرفه، وأنه فائق على غيره من سائر الكلام كله بحيث لا يدانيه كلام، ولكني أنبه من تلك الأسرار على أدناها مستعينا بالله تعالى، مستمدا من فضله، طالبا للإرشاد في كل مقصد ومراد، وليس تخلو تلك المزية التي تميز بها حتى صار في أعلى ذروة الفصاحة ومقتعد صهوة البلاغة، إما أن تكون راجعة إلى الألفاظ، أو إلى المعاني، فهاتان مرتبتان.
المرتبة الأولى في المزايا الراجعة إلى ألفاظه
  تارة ترجع إلى مفردات الحروف، وتارة إلى تأليفها من تلك الأحرف، ومرة إلى مفردات الألفاظ، ومرة إلى مركباتها، فهذه أوجه أربعة لا بدّ من اعتبارها في كون اللفظ فصيحا، وكلها حاصلة في القرآن على أتم وجه وأكمله.
الوجه الأول منها مفردات الأحرف،
  ولا بدّ من أن تكون مستعملة من هذه الأحرف التسعة والعشرين، فإنها جميعا حروف العربية، فلا يكون اللفظ الفصيح مؤتلفا إلا منها، وما خرج عنها فقد يكون مستعملا، وقد يكون مستهجنا، فأما المستعمل فهو همزة بين بين، وألف الإمالة، والتفخيم نحو إمالة هدى وهاد، ونحو الصلاة في التفخيم، والنون الساكنة نحو عنك، فإن هذه وإن كانت خارجة عن أحرف العربية التسعة والعشرين، لكنها فصيحة مستعملة في كتاب الله تعالى، وفي كل كلام فصيح، وأما المستهجن فهو الطاء التي كالتاء في نحو «تالب» في «طالب» والظاء التي كالثاء نحو في «ثالم» في «ظالم» والفاء التي كالباء في نحو قولك «ضرف» في «ضرب» والجيم التي كالكاف في نحو «كابر» في مثل قولنا «جابر» إلى غير ذلك مما يكون خارجا عن اللغة الفصيحة، فما هذا حاله لا يكون في الكلام الفصيح، وإنما الغالب عليه لغة الأنباط والأعاجم والأكراد، فما هذا حاله فكتاب الله تعالى مجنّب عنه لا يجوز دخوله فيه، لما فيه من الركة والتواء اللسان، فأما الجيم الذي أطبق من قوله:
  {جَعَلَ رَبُّكِ}[مريم: ٢٤] وفي نحو قوله: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا}[التوبة: ٩٧] فهي فصيحة مقروء بها في السبعة، فما هذا حاله لا يجب تنزيه كتاب الله تعالى عنه.