النظر الأول ما يكون متعلقا بالأمور الخبرية،
  فهو الكذب، وما عداهما فليس صدقا ولا كذبا، وهذا فاسد، فإنه لا واسطة تعقل بين النفي والإثبات، فإن طابق فهو الصدق بكل حال، وإن لم يطابق فهو كذب بكل حال، فلو جاز إثبات واسطة لكان فيه خروج عن القضايا العقلية، بإثبات الواسطة بينهما، وهو محال، وأقل ما يكون الإسناد، من جزءين كقولك زيد قائم، وعمرو خارج، إذ لا بدّ من أمرين، مضاف ومضاف إليه، والغرض بالخبر إفادة السامع ما لا يعرفه، فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، والأخبار واردة في كتاب الله تعالى أكثر من أن تحصى كالإخبار عن العلوم الغيبية، وكقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ١}[الفتح: ١] وقوله تعالى: {ألم ١ غُلِبَتِ الرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم: ١ - ٤] وقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها}[الفتح: ٢] وهكذا الكلام في قصص الأنبياء مع قومهم وأخبارهم، كقصة موسى، وفرعون، إلى غير ذلك مما حكاه الله تعالى عما كان وسيكون، ثم إن وروده على أوجه ثلاثة، أحدها أن يكون الخبر خاليا من التردد، وما هذا حاله من الأخبار، فإنه يكون مستغنيا عن مؤكدات الحكم، كقوله تعالى: {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى}[القصص: ٢٠] وقوله تعالى: {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ١٠٤ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}[الصافات: ١٠٤ - ١٠٥] إلى غير ذلك من الأخبار التي وردت ساذجة، لأنه لم يعرض في حقها شيء، والغرض منها مطلق الإخبار، فلهذا وردت مطلقة كما ترى، وثانيها أن يطلب منها حسن تقوية بمؤكد إذا كان هناك تردد وهذا كقوله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ}[القمر: ٢٧] وقوله تعالى: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ}[العنكبوت: ٣٤] إلى غير ذلك مما يطلب به توكيد وتقوية للخبر، ولهذا وردت هذه الأخبار مؤكدة بأن، كما هو ظاهر، وثالثها أن يكون الخبر يعتقد إنكاره، فيجب تأكيده، وهذا كقولك: إن زيدا لقائم، لمن ينكر ذلك ويحيله، ولهذا قال تعالى في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ١٤}[يس: ١٤] لما أنكروا وكذبوا، وفي الثانية {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ١٦}[يس: ١٦] تأكيدا بحرفين لما ازداد إنكارهم وتكذيبهم، ويسمى الأول من الأخبار «ابتدائيا» لما كان الغرض به مطلق الخبر من غير تعرض لما وراءه، ويسمى الثاني «طلبيا» لما كان المقصود به الطلب، فيؤكد تقريره في النفس ويوضحه، ويسمى الثالث «إنكاريا» لما كان المطلوب منه وجوب تأكيده بالحروف لأجل إنكاره، ومن المطلق قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ١}[المؤمنون: ١] وليس منه قوله تعالى: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢٥٤}[البقرة: ٢٥٤] وقوله تعالى:
  {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا}[المنافقون: ٧] وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}[الأنعام: ١٦٤]