الفصل الأول في بيان فصاحة القرآن
  وقدمه، لما يريد من تعديد نعمه وظهور قدرها، وعلو أمرها على الخلق، وإما من أجل تعظيمه كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة: ٢٥٨] إلى غير ذلك من الأمور المقتضية لتقديمه المؤذنة بأسرار تحت التقديم لا تكون مع التأخير، ومما يوجب تقديمه على المسند به التخصيص، والعموم، فهاتان صورتان، الصورة الأولى: العموم.
  وهذا إنما يكون في نحو قولك: كل إنسان لم يقم، فإنه يفيد نفى الحكم عن الجملة والآحاد، بخلاف ما لو تأخر، فقيل لم يقم كل إنسان، فإنه إنما يفيد نفى الحكم عن جملة الأفراد، لا عن كل فرد، فالأول يناقضه قولك: قام واحد من الناس، والثاني: لا يناقضه قام واحد من الناس، والمعيار الصادق، والفيصل الفارق، بين تقديم المسند إليه وهو اسم الشمول على حرف النفي، وبين تأخره، ما قاله الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني، فإنه قال: إن كانت كل داخلة في حيز النفي، بأن تأخرت عن أداته، نحو قوله «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» أو معمولة للفعل المنفى نحو: ما جاء القوم كلهم، ولم آخذ كل الدراهم، أو كل الدراهم لم آخذ، توجه النفي إلى الشمول خاصة، وأفاد ثبوت الفعل، أو الوصف، لبعض، أو تعلقه به، وإلا عمّ، كقول الرسول ÷ لما قال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟»، فقال له: «كل ذلك لم يكن»(١) وعليه قول أبى النجم:
  قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... عليّ ذنبا كلّه لم أصنع(٢)
  انتهى كلامه، فينحل من هذه القاعدة أن اسم الشمول، وهو «كلّ» إذا كان مندرجا في ضمن النفي، واقعا بعده، سواء كان الفعل المنفى عاملا فيه أو غير عامل، فإنه يكون واقعا على الشمول، فلا يناقضه إثباته لبعض الآحاد، وإذا كان واقعا قبل حرف النفي وليس مندرجا تحته، كان النفي عاما للآحاد والمجموع، وهو أحسن كلام وأوقعه في ضبط هذه القاعدة، ولقد وقفت على كلام لغيره من علماء البيان في تقرير هذه القاعدة، بناه على قانون المنطق، ونزّله على منهاج السالبة المهملة، والمعدولة، فأورث فيه دقة وأكسبه ذلك حموشة وغموضا، من جهة أن مبنى علم البيان، وعلم المعاني على معرفة اللغة وعلم الإعراب، فلا ينبغي أن يمزج بعلم لم يخطر للعرب، ولا لأحد من علماء الأدب على
(١) أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب (٨٨)، ح (٤٨٢)، والأذان باب (٦٩)، ح (٧١٤) والمساجد والسهو والإيمان وأبو داود في باب الصلاة وكذلك النسائي.
(٢) انظر البيت في المصباح ص ٢٢٨، ١٤٤.